لست قارئة متبحرة في التاريخ حتى أسترشد بسابق اطلاعي، على صحة الرواية أو كذب التزوير الوارد في هذا الكتاب. لكن الدكتور محمد عمارة يظهر الحيادية و الدقة لست قارئة متبحرة في التاريخ حتى أسترشد بسابق اطلاعي، على صحة الرواية أو كذب التزوير الوارد في هذا الكتاب. لكن الدكتور محمد عمارة يظهر الحيادية و الدقة إلى حد كبير في أطروحته، و يُكسب بذلك عمله طابعاً وثائقياً مريحاً،إن صح التعبير.
يمنح الكتاب المهتمّين تصوّراً جيداً عن التطور الذي مرت به الآيديولوجية الإسلامية عبر الزمن ، و كيفية تغيرها و تأثرها باختلاف الظروف السياسية و الاجتماعية. إضافة لآلية نشوء تياراتها الفكرية. و يهيئ بشكل مبدئي للإجابة عن منبع التطرف و التشدد المقترنين حاليا بالفكر الأصوليّ الإسلامي.
ما أثار اهتمامي إلى حد كبير ، هو أن كثيراً من القضايا الإسلامية التي تعتبر شبه واضحة و قطعية في الوقت الراهن -و قد نجد بشأنها دواوين و مؤلفات تفيض في نقاشها و توضيحها - ،كانت في زمن ما قضايا طارئة و جدلـيّـة. و ربما قد تسبب الجدال بشأنها في حرب داخلية مع تصفياتٍ سياسية، اغتيالات و اعتقالات ، و إلى ما هنالك. و ربما قد تسبب الجدال ذاته في نشوء تيار فكريّ جديد، أخذ عن سابقيه اجتهاداتهم، و نسب لنفسه فضيلة البتّ في القضية المتنازع بشأنها.
بغضّ النظر عن اقتناعي من عدمه بصحة المعلومات الواردة و درجة موثوقيتها، فإن الكتاب روى لي قصةً تبدو لي حبكتها مألوفة جداً....more
النجمات الثلاثة ليست لجرأة الكاتب ، فالجرأة هي أول و أقلّ ما أنتظره من قلم ٍ ناقدٍ في موضوعٍ كهذا ، و لكنها لنقاطٍ و فصول محددة أعجبني أسلوب طرحها و مالنجمات الثلاثة ليست لجرأة الكاتب ، فالجرأة هي أول و أقلّ ما أنتظره من قلم ٍ ناقدٍ في موضوعٍ كهذا ، و لكنها لنقاطٍ و فصول محددة أعجبني أسلوب طرحها و مناقشتها في الكتاب . أولها النقطة الأخيرة من ثلاثٍ يوضح فيها الأستاذ العظم رؤيته للتعارض بين الأسلوب العلمي و أسلوب الفكر الديني. إذ يذكر أن العلم في منهجه يسعى دائما لاكتشاف حقائق جديدة غير معروفة حول العالم و الوجود ، أي أنه في بحثه ينظر للأمام ، نحو حقيقة ما مجهولة تستدعي الاكتشاف. كما أنه ينوّه أن العلم كمنهج لا يعترف بحقيقة مسلّمة أو نص مقدس لا يحتمل النقد أو التصويب. لكنّ المنهج الديني لديه طرح مخالف تماما ، فهو يسعى لفهم أعمق و أشمل للنص المنزّل سابقا. و يعمل على الربط بين أجزائه و يتدارس تأويلاته وشروحه ، وشروح شروحه ، لاستخلاص الحقائق و المعارف الثابتة برأيه والمخبأة بين سطور الكتاب المقدس. و عليه فإن ما يستجدّ بتغير الزمن من وجه نظر الدين ليس الحقيقة نفسها ، بل فهمنا لها و المعنى الجديد الذي نكتشفه لقالب و محتوى النصّ . ولهذا يعزو الكاتب توجه أنظار المؤمنين للوراء ، نحو لحظة نزول النص المقدس باعتبارها لحظة كشف للحقائق الأزلية .
و بعيداً عن تحميل مفهومي ( الأمام و الوراء ) هنا رمزية تقدم أحدهما أو تخلفه عن الآخر . تبدو لي وجهة النظر هذه صائبةً . وعليها يبني الكاتب رأيه في أن الفكر العلمي و الديني لا يلتقيان في منهج بحثهما بالضرورة ،ولا يشتركان في أسلوبه.
و أضيف تعقيبا حول تباين المنهجين ،أنه ومن وجهة نظر علمية صرفةٍ ، فالايمان بصحة قضية ما كمقدمة ٍ لإثباتها ، يعتبر في منهج البحث العلمي مغالطة منطقية ، و تدعى هذه المغالطة بـ "المصادرة على المطلوب " أو Begging the question. مغالطة "المصادرة على المطلوب" هذه و حسب تعريف الدكتور عادل مصطفى لها في كتابه المغالطات المنطقية ، هي التسليم بالمسألة المطلوب البرهنة عليها من أجل البرهنة عليها .
وكمثال على هذا التباين ، أذكر الاستدلال الشرعي بالنصوص الثابتة على جواز أمرٍ ما من عدمه. الاستدلال هنا يأتي من كون النص الثابت صحيحاً و غير قابل للجدل بالضرورة، و بالتالي فإن القضية التي نريد البرهنة عليها صحيحة قطعاً كنتيجة لصحة النص . هذا المنطق التشريعي مقبول بداهةً بين أتباع الديانة الواحدة ، وذلك لأن نقطة البدء ( النص الديني ) التي انطلق منها البرهان هي نقطة ثابتة وغير خلافيّـة بينهم ، لكنها لا تعود كذلك بين مؤمن و غير مؤمن . و بالتالي فإن شيئاً مما يسمى برأي العلم "مغالطةً منطقيةً " ، يعتبر في بعض آليات المنهج الديني بعكس ذلك ، "منطقا تشريعيا" ومن هنا يقع الأسلوب الدينيّ أحياناً مع غير المؤمنين (أو مع الآخر بصورة أوسع) في حرجٍ ، عندما يعتمد في برهانه على الحقائق العلمية كنقطة غير خلافيّـة و يحاول أن يستدلّ من خلالها على أسبقيـّة النص و إعجازه. فيأتي بحادث علمي أو حقيقة كونيّة ويدّلل على سابق قول النص فيها و إشارته إليها ، بما يعرف بالإعجاز العلمي للنص الديني. ثم لا يلبث العلم لاحقاً أن ينقض تلك الفرضية العلمية أو يستبدلها ، بسبب تطور أساليبه و أدواته أو بواحدة من آلياته الروتينية كالنقد الذاتي مثلا ، فيقع المنهج الديني هنا في إشكالية جدلية كبيرة.
و أسوق كمثال على هذا الحرج ، ما أورده الأستاذ عماد الدين السيد في مقاليه التاليين :
وأنوه إلى أن الحديث هنا في بيان الاختلاف بين المنهجين ، و عدم صحة مزاج التطبيع السائد بينهما ، وليس في تفضيل أحدهما على آخر.
الفصل الآخر الذي أعجبني في عرضه هو فصل مأساة إبليس. و الغريب في الأمر أن أكثر الانتقادات التي وجهت للكاتب تدور حول عدم اتباعه لأسلوب علمي في الطرح، وعدم سوق أدلة علمية مع العلم أن قصة الخلق بمجملها قضية ميثولوجية ، لا يمكن دحضها أو إثباتها بأدلة علمية مادية ، لأنها حادثة غير علمية في أصلها. ما وجدته أن الكاتب لم يكن بصدد إظهار مظلمة إبليس و شحذ التعاطف لأجله، وإنما اختار لحظة بدء الخليقة للإشارة إلى خلل ما في أسلوب التأويل ، ابتداءً من فهم اللحظة الأولى ، فقام بنقد المنهج الديني من خلالها نقدا داخليا. فالمنهج ذاته الذي يتحدث بالتفريق بين الأمر الإلهي القابل للطاعة أو المعصية، وبين المشيئة الإلهية الواقعة بالضرورة. هو ذاته من استثنى عشوائيا قصة طرد إبليس من تفريقه السابق. و الذي يؤكد على قبول التوبة لكل عبد في كل حينٍ ، سيجد حرجا منطقيا من قبول توبة إبليس -إن حصلت- باعتباره مصدر الشر و لاعبا أساسيا في توازن المتضادات (الخير والشر).
بالنسبة لمشكلة الحوار المسيحي - الإسلامي ، وتطرق العظم لوجوب مناقشة قضايا اللاهوت بين الطرفين و الكفّ عن التأكيد أن المسيحيين والمسلمين إيمانٌ واحدُ دون البحث في القضية اللاهوتية التي تفرق بينهم . خاصة و أن ما يعد كفراً بائنا في أحدى الديانتين يصبّ في جوهر عقيدة الأخرى. فأختلف مع الكاتب وأجد ان مثل هذه القضايا إن تمّ حلّها فسيكون على حساب طرف دون الآخر، وذلك لعدم قابلية أي فكرة لاهوتية للتمويه أو التعديل. وأرى أن وضع القضية للنقاش هو بذاته شيء من العبث. فلن نحصل في أفضل نسخة منه سوى على حوار خلافيّ لا توفيقي ، يزيد التفريق و الصدام ، كالحوار بين أحمد االديدات و أنيس شروش : هل القرآن كلام الله أم الإنجيل و أرى من الأفضل بناء أي نقاش ديني قادم على قاعدة إنسانية ، فهي الوحيدة التي تتسع للجميع.
ومن ثمّ أخيرا فصل (مدخل إلى التصور العلمي - المادي للكون و تطوره) وهذا الفصل لم أجد له من داعٍ. لكني أعرف أن الكاتب عندما يثير كثيرا من التساؤلات و يضع كثيرا من المفاهيم تحت مجهر النقد و التمحيص ، سيـُطالَب ولو بعد حين بإيجاد البديل . و لذا فقد اختصر الأستاذ صادق على نفسه و وضع ما يرى فيه حركة علمية بديلة لما نقده . و أنا أقدس السؤال والتساؤل و لا تعنيني الإجابات كثيراً ، و ربما لهذا السبب لم يعجبني إقحام هذا الفصل في الكتاب .
إذا حار أمرك في معنيين * ولم تدر حيث الخطا والصواب
فخالف هواك فإن الهوى * يقود النفس إلى ما يعاب
********
إذا سبني نذل تزايدت رفعة * وما العيب إلا أن أكون مساببه
ولو لم تكن نفسي عليّ عزيزة * لمكنتها من كل نذل تحاربه
ولو أنني أسعى لنفسي وجدتني * كثير التواني للذي أنا طالبه
ولكنني اسع لأنفع صاحبي * وعار على الشبعان إن جاع صاحبه
*******
ما في المقام لذي عقل وذي أدب * من راحة فدع الأوطان واغترب سافر تجد عوضا عمن تفارقه * وانْصَبْ فإن لذيذ العيش في النَّصب إني رأيت ركود الماء يفسده * إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الغاب ما افترست * والسهم لولا فراق القوس لم يصب والشمس لو وقفت في الفلك دائمة * لملَّها الناس من عجم ومن عرب والتِّبرُ كالتُّرب مُلقى في أماكنه * والعود في أرضه نوع من الحطب فإن تغرّب هذا عزّ مطلبه * وإن تغرب ذاك عزّ كالذهب
*******
لما عفوت ولم أحقد على أحد * أرحت نفسي من هم العداوات إني أحيّي عدوي عند رؤيته * لأدفع الشر عني بالتحيات وأظهر البشر لإنسان أبغضه * كما إن قد حشا قلبي محبات الناس داء ،وداء الناس قربهم *وفي اعتزالهم قطع المودات
*******
إن كنت تغدو في الذنوب جليدا * وتخاف في يوم المعاد وعيدا فلقد أتاك من المهيمن عفوه * وأفاض من نعم عليك مزيدا لا تيأسن من لطف ربك في الحشا * في بطن أمك مضغة ووليدا لو شاء أن تصلى جهنم خالدا * ما كان أَلْهمَ قلبك التوحيدا
"لقد اختبرت بجسدي و روحي ، أني كنت محتاجا إلى الخطيئة ، إلى الشهوة و الغرور و الطمع بالأملاك ، أني كنت محتاجا إلى أردأ يأس لأتعلم العدول عن المعاندة، "لقد اختبرت بجسدي و روحي ، أني كنت محتاجا إلى الخطيئة ، إلى الشهوة و الغرور و الطمع بالأملاك ، أني كنت محتاجا إلى أردأ يأس لأتعلم العدول عن المعاندة، لأتعلم أن أحب العالم، لأكف عن مقارنته بعالم أرغب فيه و أتخيله ، بنوع من الكمال الذي ابتدعته، لا بل لأتركه كما هو و أحبه و أحب الانتماء إليه"
" لا يمكن الإفضاء بالحكمة ، فالحكمة التي يحاول الحكيم الإفضاء بها تبدو دائما كالحماقة "...more
قد كان من الممكن أن أعتبر هذا الكتاب رواية الدكتور العمري الشخصية -والشخصية جدا - عن الحضارة الأميركية لو لا أنه تحرى ذكر المصادر والمراجع في كل فكرة قد كان من الممكن أن أعتبر هذا الكتاب رواية الدكتور العمري الشخصية -والشخصية جدا - عن الحضارة الأميركية لو لا أنه تحرى ذكر المصادر والمراجع في كل فكرة وبعد كل إحصائية .. لا أنكر أن بعض الحقائق عسيرة الهضم ،و أنها دفعتني للتحري والبحث هنا وهناك حتى أتأكد من صحتها ، لكني في كل مرة لم أجد شيئا يناقض المذكور !
يقوم الدكتور العمري بمقارنة القيم و الثوابت الفكرية بين حضارتين ، الأولى هي الحضارة الأميركية والتي أطلق عليها مجازا (الفردوس المستعار) والثانية هي الحضارة الإسلامية القائمة على المنهج القرآني تحت مسمى ( الفردوس المستعاد) . المقارنة كانت بين الأركان الخمس التي تقوم عليها كل من الحضارتين : الركن الأول : الشهادة في الإسلام والتي في جوهرها تعني الإيمان بالغيب ويقابلها ��ي الحضارة الأميركية المادية. الركن الثاني : الصلاة والتي تعني ذوبان الفرد ضمن الجماعة ، وتقابلها الفردية. الركن الثالث : الزكاة والتي تضمن التوازن بين الأغنياء والفقراء ، وتقابلها الرأسمالية أو الاقتصاد الحر . الركن الرابع : الصيام والذي هو انقطاع عن الاستهلاك ، مقابل الحياة الاستهلاكية . الركن الخامس : الحج الذي يعزز المفهوم الزمني والتاريخي عند المسلم ، مقارنة بمبدأ (الآن وهنــا ) .
فكرة الكتاب تعتمد على أن (القيم السلوكية ) أو القيم الظاهرية و التي يروّج لها على أنها لب حضارة ما، إنما هي ناتج من نتائج تفاعل (القيم المحركة ) التي تحرض السلوك العام و المسئولة عن الشكل النهائي لسائر الحضارات . ولذلك فإذا أردنا البحث في أي حضارة علينا أن نتوجه نحو المصدر العميق ، أي نحو القيم المحركة .وعليه فإن النظرة السائدة عندنا وهي أن (( قيم المجتمع الغربي هي قيم إسلامية في أصلها لكن الغربيين لا يدركون ذلك )) ، هي نظرة مغلوطة إذا ما بحثنا قليلا في العمق ، ذلك أننا والغرب على طرفي نقيض فيما يتعلق بالقيم المحركة أي القيم الجوهرية التي أسست لكل من الحضارتين .
يصل في نهاية الكتاب إلى أن ثقافة السلاح ليست هي الحل في مواجهة المد الحضاري الأميركي ، لكن الحل يكمن في إنشاء حضارة بديلة هي في مضمونها عودة نحو ثوابتنا الفكرية المقررة في النهج القرآني وتحويلها إلى واقع معاش، وإنشاء مشروع حضاري حقيقي منافس .
حرص الكاتب على دعم رؤيته بكثير من الإحصائيات والمقالات والأدلة الاجتماعية والعلمية والتاريخية مما جعل الكتاب يعطي نظرة شمولية إلى حد ما . لكنها بالطبع ليست محايدة فهي تعبر عن رؤيته و قراءته لهذه المعطيات ، وهو أمر لنا أن نعجب به أو ننقده . أما بالنسبة (( للمبالغة أو التحامل على الحضارة الأميركية ))، فهذا يعزى إلى اللغة ( العمرية ) كما تعودناها ، بانفعاليتها ، صراحتها و وضوحها المستمد من القراءة الدقيقة و البحث المتعمق في جوهر الشريعة القرآنية . لكني لم ألحظ وجود أفكار متحاملة وإنما عبارات أدبية قوية و أسلوب بلاغي فقط ، هذه العبارات الأدبية المبالغ فيها أحيانا كنت أفضل غيابها لأنها لم تخدم الفكرة كثيرا وإنما أطالت على القارئ و شتتته في بعض الأحيان ، وخاصة في فصل (سيناريو الفقدان و خطة الاستعادة ) .
كتاب مهم جدا سلط الضوء على ضعف ومضاعفة الانتماء الذي نعيشه بين حضارتين تختلفان كل الاختلاف ، أضاف لي الكثير و نبهني على عمق لم أدرك وجوده أصلا, أنصح به وبشدة .