مجموعة قصصية تونسية ترجع إلى بداية التسعينات، من تأليف نافلة ذهب إحدى أكثر الكتاب التونسيّين انغماسا في هذا الصنف الأدبي آنذاك. وقصصها قصيرة جدا، لا تمجموعة قصصية تونسية ترجع إلى بداية التسعينات، من تأليف نافلة ذهب إحدى أكثر الكتاب التونسيّين انغماسا في هذا الصنف الأدبي آنذاك. وقصصها قصيرة جدا، لا تتجاوز الواحدة منها الصفحات الأربع. ورغم ذلك فليس فيها من التكثيف شيء تقريبا. ولعلّ ما يميّزها، شاعريّتُها ونزوعها للإبهام طلبا لمساحة تأويلية واسعة لا تبلغها. فأغلب الصّور واضحة، وأغلب أفكار القصص بسيطة، لا طرافة فيها سوى نفسها الشاعريّ. تحاول نافلة ذهب التعبير بالصّمت عن هواجس اجتماعية ونفسيّة متنوّعة، فوجدتُها موفّقة في النّفسيّة منها أكثر من الاجتماعية، وكما أحببتُ قصّتها عن الاغتصابِ، لم أحبَّ تمثّلها لعالم الواقعِ، فعجبت منها تحدّثنا عن العامل في مصنع الأسلحة، وتخبرنا عن جلسات فرجة العمّال على الآثار الدمويّة لصناعتهم. ليس لأن لا يوجد مصنع عاقلٌ واحد يبادر بهذا الغباء الفجِّ، ولكن لأنّ سليم العقل لا يحتاجُ إلى المشاهدةِ ليعلم تلك الآثار. وإنما هي صورة رمزية شديدة السذاجةِ... والسؤال الذي أطرحه على نفسي، إن كان هذا الكتابُ نتاجَ تجربةٍ بارزة في الأدب التونسيِّ، فهل كان مستوى هذا الأدبِ في نهايات القرن العشرين، على هذه الدّرجة من التواضع؟...more
تأخذنا الرواية في بدايتها إلى عالم قريب وبعيد عن القارئ العربيّ التونسيِّ في آن، عالمٍ يشترك في فضاءاته مع شوارعِنا وأحيائنا بمدينة سوسة التونسية. لكنتأخذنا الرواية في بدايتها إلى عالم قريب وبعيد عن القارئ العربيّ التونسيِّ في آن، عالمٍ يشترك في فضاءاته مع شوارعِنا وأحيائنا بمدينة سوسة التونسية. لكنّه بشخصياتِه اليهودية أضحى كعالمٍ مجهولٍ لا نعرفُه أو لا نعرف منه إلا الواجهة، وهاهو سفيان رجب يحاول أن يأخذنا إليه عبر شخصيّةِ صموئيل لحظة تحوُّلِه إلى موسى. رويدا رويدا، نكتشفُ أن العالمَ ليس بتلك الغرابةِ التي نتخيّلُ. إذ لا يكاد موسى يختلف في شيء عن تونسيٍّ مسلمٍ حوّل اسمه من محمّد عليّ، إلى أبي الحسن، ووجّه جهده وإيمانه إلى أحد المذاهب السلفية. وكذلك بقية الشخصيات، كأن يهوديّتهم قشرةٌ استيتيقية لدواعي الدهشة الروائية. ثم إنّ ملامح النسيج الدرامي تأخذ في الإفصاح عن نفسها تدريجيا، فإذا بنا نقرأ نبطيَّ يوسف زيدان بلون يهوديّ باهتٍ وتصوّرٍ فكريّ انفعاليٍّ للعالمِ وللدين. يمكن تحديد لحظة التدهور مع بروز شخصية إيريلا كفاعل رئيسي في الأحداثِ. لم يساهم ظهورها في قتل كل سحرٍ في شخصية موسى فقط، وإنما خلق ضعفا فادحا في الحبكة. إن شخصية إيريلا نفسها تعاني من ترهل واضح إذ تُقدَّم في لحظة ما كفنانة عالمية قدمت أعمالَها في مسارح العالمِ، وحين تقّدم عملها الثوريَّ الجديدَ في قاعةٍ منسيّةٍ في مدينة سوسة، لا يأتي للعرض سوى قلّة قليلةٌ. وحتى لو تعمّدت إيريلا ذلك، فلا يبدو أن الكاتب واعٍ بهذا الأمرِ. وبشكل عامّ فحقيقةُ إيريلا أصغر بكثيرٍ مما يقال عنها، وأفكارُها أصغر بكثير من كلماتِها. في النهاية لم يغص الكاتبُ كثيرا في عالم اليهود التونسيين، وحسبه أن حاول تقريب القارئ منهم، بإطلاعه على أفكارِهم ومخاوفهم وتاريخ معاناتِهم، ولم يتردد في رصد علاقتهم بإسرائيل فيما يشبه التطبيع مع تطبيعهم الواضحِ، بحجة الدين، وبحجة الاضطرار... فلم نرَهم في أعيادِهم وفي خصوصيات ثقافتهم إلا النزر القليل....more
عرفت الرواية التونسية في السنوات الأخيرة تطوّرا لا بأس به. ليس فقط بحضورها الدائم في جوائز الرواية العربية الكبرى بل تتويجها كما طليانيِّ المبخوت، وإنعرفت الرواية التونسية في السنوات الأخيرة تطوّرا لا بأس به. ليس فقط بحضورها الدائم في جوائز الرواية العربية الكبرى بل تتويجها كما طليانيِّ المبخوت، وإنما أيضا بتجاوز قيمتها النقديّةِ شهادةَ الجوائزِ ولجانَها، واحتلالِها موقعا فريدا، قد يحتاج الدّارسُون إلى مسافةٍ زمنيةٍ للانتباهِ لها، مثل رائعة أميرة غنيم، نازلة دار الأكابر. ولئن النازلة لحظةٌ استثنائيّةٌ فإنّ أغلب الأعمال تنتمي إلى النوع الأوّلِ. ينتهي المرءُ وهو يقرأ للروائيين التونسيّين، إلى وجودِ مادّة خصبةٍ تصلح حقّا للكتابة، ولكنّها كثيرا ما تتوه في ثنايا حبكةٍ مهترئةٍ. لذلك، وأنا أتنعّم النوادر التي جمعها الجيلاني ولد حَمد في دفاتره، كنتُ أراقبُ، بقلقٍ، ما بقي من الصفحاتِ، وأكرّر ذات التساؤل، متى تتوهُ الروايةُ عن أبطالِها، ومتى تتهلهل حبكتُها؟
الإجابة القصيرةُ، لم يحدث ذلك تماما. أما الإجابة الطويلة، فبحاجة إلى فهمِ بناءِ هذه الروايةِ، والانتباهِ إلى دلالاتِها. يخصّص الكاتبُ صحبي كرعاني (وأفضّل أن أسمّيَه الصّحبي) مقدّمةً للتنصُّلِ من نصِّ روايتِه، ناسبًا إيّاهُ إلى رجلٍ غريبِ الأطوارِ، هربَ من سجنِ ليل Lille شمال فرنسا، قبل أيام أو أسابيع من خروجِه المفترضِ، وتركَ خلفَه سهوا، دفاتره الّتي خطّ فيها سيرته الذاتيّةَ. فكرةٌ طريفةٌ قد لا يشكُّ المرءُ في خيالِها لولا أن أجاد الكاتبُ غزل تفاصيلِها، فخلق لدى القارئ ما ينشده من الحيرةِ والالتباسِ. يقيمُ الصحبي الكرعاني حقّا في مدينة ليل، وهو حقّا أستاذ رياضيات بالجامعة. فمن الواردِ جدا أن يحظى بهذه الدعوةِ للنّبش في أرشيف السجون، وإحصاء ما يرادُ إحصاؤه. صَبـغ هذا الجزءُ بواقعيّتِه الأكيدةِ، بقيّة السياقِ المقترحِ، فأوهم قُرَّاءً كُثرا بذلك، وحقّق للكاتبِ مبتغاهُ الحقيقيَّ وهو الفصلُ الجازم بينه وبين الرّاوي البطلِ. ولكنّ تفصيلا بسيطا خانه في لعبته. إذ يقول في اهتمامِه بالدفاترِ التي عثر عليها صدفةً: إنّ صاحبها من ذات القريةِ التي هو من أبنائها. فماذا يخبرنا علمُ الإحصاءِ عن هذه المصادفةِ المدهشة؟ تخيلوا قريةً تونسيّةً لم يتجاوز عمرها سبعة أجيالٍ، يلتقي اثنان من أبنائها من الجيل نفسِه تقريبا (بين الكاتب وبطله نحو عشر سنين) في مدينة فرنسيّةٍ يندرُ أن يأتيَها التونسيّون، ولكم أن تستنتجوا احتمالات حدوث هذا الأمر. لا يعني اختلاقُ البطلِ، اختلاقَ حكايتِه. فأغلبُ ما سوفَ يُطالعنا من أحداثٍ بلسان الجيلاني، على قدرٍ من الأصالةِ، والنقصان (imperfection) يصعبُ استنباطُهما. وبالتّالي، يمكن الاطمئنانُ إلى اعتبار دفاتر الجيلاني، دفاتر الصحبي في الواقع. إنها شبه سيرةٍ ذاتيّةٍ مقنّعةٍ. يحاول فيها صاحبُها، استرجاعَ حياتِه التي تركها خلف ظهرهِ، في شكلٍ روائيٍّ بذل فيه جُهدَهُ ليقنعَنا بانعدامِ علاقتِه بها حتّى يتحرّر من محرجاتها. هاهو يتوخّى منهجيّةً ماكرةً في سبيل ذلك. فعوضَ أن يُبرزَ جانب الخيالِ فيها، نجدُه يجتهدُ ليقنعنا بواقعيّتها، وواقعيّةِ بطلِها الجيلاني. ألا تُبعدُ نسبةُ الأحداثِ إلى شخصٍ آخرَ، نسبتَها إلى صاحبها الأصليِّ؟ لهذا يصرّ الكاتبُ على مزامنةِ أحداثِه والأحداثِ التاريخيّةِ العامّة التي عرفته�� البلاد في تلك الفترةِ. فتزامن التأسيسُ مع وقائع انتفاضة علي بن غذاهم، وتزامنت وفاةُ عامر ولد حمد ببداية الاحتلال، وأبرِزت الأحداث التاريخية المؤثرة في حيوات الشخصيات، من المقاومة المسلحة، إلى الحرب العالمية، إلى الحركة الاستعمارية الفرنسية، إلى النازية، إلى الاستقلال، وحتى انقلاب السابع من نوفمبر…
تُنشد كثافة الحضور التاريخيِّ في الرواية عادةً إلى إسقاطٍ لرحلة البطلِ على رحلةِ البلادِ. نرى ذلك مثلا في رواية ليليان لي Lilian Lee: الملك المهيمن يودّع خليلته. أو في رواية ونستون ڤروم Winston Groom فورست ڤمپ Forrest Gump، أو أيضا في رواية "ذات" للمصري صُنع الله إبراهيم. أما في دفاتر الجيلاني، فيصعب أن نجد هذا الإسقاط. ولكننا نرى رغبة قويّة في الربط بين الرّحلتيْن لسببين على الأقل. فأولا، من أجل ما سبق ذكرُه من رغبة في إيهام القارئِ بواقعيّةِ الأحداثِ وبالتالي حقيقةِ وجودِ الجيلاني، كشخصيّةٍ لا علاقةَ لها بالصحبي الكرعاني. وبهذا الانفصالِ، يمكن للكاتبِ أن يتحدث عن حياتِه، التي باتت حياةَ شخصٍ آخرَ، بقدرٍ كبيرٍ من الحريّةِ، والتصّرفِ، وعدم التحرج.
أمّا السبب الثاني، فعلى علاقة وطيدة بغرض الكتابِ. لا ننسى أنّ الصحبي الكرعاني، أستاذ رياضيات هاجر منذ بداية التسعينات تقريبا إلى أقاصي الشمال الفرنسيِّ، وتأسست حياتُه هناك، وغابت في تخومِ عالمٍ لا يشبهُ في شيءٍ عالمَه الذي فيه تربّى وترعرعَ. لم يمتْ عالمُه الأوَّلُ ولكن كان سجين مدينةِ ليل الفرنسيّةِ وكان عليه أن يهرب، أن يفرَّ بجلدِه عبر الخيالِ، وعبر الدفاتر. إنّ قصة سجن الجيلاني وفرارِه على قدر كبيرٍ من الرمزيّةِ، حتّى إنني لم أعجب من عدم انتظاره لنهاية المدّة الوشيكة. حنينٌ قويٌّ إلى جزءٍ راسخٍ منه، لم يمت، حتى وإن تقوّضَت ملامحُ العالم القديمِ خلف سدّ سيدي سعد أو كما أسماهُ سدّ بورڤيبة بدايةَ الثمانينات. وكان من الضروريِّ أن يتحوّلَ من أضغاث ذكرى إلى حاملةٍ تُخلِّدُه، وتلك هبة الأدب. تحضر الذكرى إذا ممزوجة بدفقة قويّة من عبق التاريخِ، فتُذكّر القارئَ والكاتبَ على السواءِ بأنّ ذلك العالمَ الذي اختفت آثارُه، كان هناك بلا ريبٍ، وأنّ تلك الأحداث التي انتهت إلى شخصيّتِه التي هو عليها الآنَ، حقيقةٌ لا ريب فيها، حتّى وإن امتزج الواقعُ فيها بالخيالِ. فذاك جزء من طباعِ الكاتب منذ طفولتِه مثلما أبرزته الفصولُ.
يتناوب الخيالُ والحقيقةُ في علاقة الجيلاني ولد حمد بالصحبي الكرعاني، فيصعب تعقبُ هذا وذاك، ولكن لا يستحيلُ كلّه. ولئن لا يمكن التصديق بممارسة الكاتبِ مثلا للملاكمة السرية في باريس، إلاّ أننا قد نتقبل رغبته في ممارسة الملاكمة في مرحلة من حياتِه. وربما مارسها بالفعلِ في القيروان، مثلما أشار لذلك عرَضا على لسان الجيلاني. ففي النهاية، ينهلُ أبطالُ الدفاتر بيُسرٍ من ذاكرةِ الصحبي الكرعاني، ومن خيالِه، لأنّ بنية النصِّ تقوم على تراكم الاستطراد في سرد النوادر والأخبارِ المتفرّقةِ. فلا تؤثّر رحلةُ عثمانٍ إلى دمشقَ في معاركِ الجيلاني على حلبات الملاكمة، إلا تأثيرَ التاريخ في الحاضرِ. وقليلا ما نشهدُ تلاحما دراميّا بين بعض الأحداثِ، مثل عودة ربيحة زوجة عثمان الأولى، أو ربّما العودة إلى يونس عبر زوجته آمنة وابنته زهرة. على أن الاستطراد، ليس متعارضا مع وجود هيكلٍ عامّ منظومٍ مسبقا. ولا شكّ أن الكاتب يعرف منذ البداية ما سوف يحدثُ للجيلاني، معرفتَه بما سيحدثُ للصبيِّ الصّحبي. فنراهُ لا يقتصدُ ومضات الاستشراف Flashforward التي يُجيدُها الكاتب أيّما إجادةٍ: يعمدُ إليها، فيكشفُ جزءا بسيطا من الأحداثِ قبل أوانِها، فلا يزيدُ القارئ إلا تشويقا. وبين هذه الخطوط العامّةِ المُعدَّةِ مسبَقا، يسمح لنفسه باستطراداتٍ متنوّعةٍ، تنبثق من خلطٍ متعمّدٍ بين خيالِه وذاكرته، وتتحقّق بها حاجته إلى سكب شخصيّتِه القديمةِ، بذاكرتها وأحلامها أيضا.
لكنّ الصحبي الكرعاني وهو ينبشُ في تاريخِه، نبشَ في جزءٍ من تاريخِ البلادِ وصنع لنا شيئا مثيرا: هاهو ذا يمنحُ سلطةَ الخطابِ لطبقةٍ يكادُ الأدبُ التونسيُّ يتجاهلُها، وإذا ما أفرد لها بعض المساحة، فهي مساحةٌ مصطنعةٌ، قائمةٌ على صورةِ تلك الطبقة بعيون الآخرين. أعني طبقة "الأعراب" من بدوٍ وبطون قبائلَ عاشت حتّى بدايات الاستقلالِ، في دواخلِ البلاد على هامش مدنها. فقد ظلّت الرواية التاريخيّةُ التونسيةُ حبيسة المدينة العتيقةِ، أو ربما واحات الجنوب. وحتّى عندما كتب حسنين بن عمّو عن عام الفزوع، فلا تكاد تجدُ في عالمِه تلك الأصالةَ العفويّة التي ارتسمَ بها ذات الإطارِ، في دفاتر الجيلاني. ومن هذا المنظور، فدفاتر الجيلاني، وثيقة رائعةٌ عن ملامح الحياةِ الريفيّة المهيمنة على البلادِ قبيلَ الاستعمار وحتى نهاية التعاضد. ولم يعد يفصلها عن الملحمة التاريخية إلاّ عجز الكاتبِ عن تحويلِ كلِّ ذلك الزخمِ القصصيِّ إلى صياغةٍ دراميّةٍ حقيقيّةٍ. إذ تأتي أغلب الحواراتِ في شكلٍ تقريريٍّ مضجرٍ يفصل بين القارئِ وبين لحظةِ الحوارِ. أما الأحداثُ فعلى مادّتها المثيرةِ، كثيرا ما تخونها الصياغةُ التلخيصيّة، واللغةُ البسيطةُ التي تقربُ أحيانا من لغة الصحافةِ. يلتجئ الكاتب مرّة أخرى إلى سلاح التنصّل من نصِّه بهوامشَ ذكيّةٍ يذكّر فيها بأنّه أورد الكلام مثلما وجده، بل مثلما كتبه شخصٌ غير متعلّمٍ، عاشَ صعلوكا على هامش قومِه المهمّشين! (يذكّر أحيانا بموهبة البطلِ غير المصقولةِ في الإنشاءِ، وهو تبريرٌ قد يتوافق مع الكاتب أكثر من توافقِه مع اليعسوب) على أنّ دفاتر الأدب العربيِّ تحتفظ لنا بشخصياتٍ مهمّشةٍ تجيد التعبير عن نفسها وعن تهوّر عاطفتِها، مثل الياطر. فلا تعارضَ بين شاعريّةِ السّردِ وبين مستوى السّاردِ الثقافيِّ.
ولعلّني أجدُ حسنةً للغةِ الكتابةِ في كثافةِ المفردات من لغة التونسيّين، ومن ثقافتهم القبليّةِ العميقةِ. إذ يؤصّلُ النصُّ ببراعةٍكلامنا التونسيِّ في العربية، ويجعل من استعمالِه طبيعيّا في مناسباتٍ كثيرةٍ. ويستعملُ الحوارَ الذي كان في أغلبه بالفصحى، ليزيدَ من كثافةِ اللهجة التونسيّةِ. على أنّ العمليّة لا تخلو أحيانا من الإفراطِ والزّللِ، مثل "المنداف" (وقد شرحها في الهامش)، و"أرسلته إلى سكومة" بمعنى "بعيدا" (ولم يشرحها)... فكان النصّ أعقل من أن يكتبهُ صعلوكٌ متهوّرٌ حرٌّ مثل الجيلاني، وأقلَّ شاعريّةً من سيرةٍ زاخرةٍ في مادَّتِها ما فيها من الأفكارِ المثيرةِ.
هل تاهت الروايةُ عن أبطالِها؟ وهل تهلهل حبكتُها؟ ليس تماما. صحيح أننا في النهايةِ لم نعرف الكثير عن زمن الكتابةِ نفسِه، عن حاضر الجيلاني في سجن ليلِ أثناء كتابة الدفاتر. وحسبُنا منهُ علاقتُه المختزلةُ برفيقِ سجنِه البولونيِّ. وصحيحٌ أنّ تشظّي النصّ ولّدَ هلهلةً بسيطةً في نهايتِه عندما لمسنا تناقضا بين ما قاله الجيلاني عن سفره إلى القيروان زمن الحصاد (الفصل السادس) وبين ما قاله في الختام عن سفره نهاية سبتمبر (الفصل العشرون). بل إن النص نفسه يقوم على نوع من التشظّي يجعلنا أحيانا نتساءل عن الغاية من الحديث عن لقاء الراوي بأستاذ الفلسفة الكشباطي أو بعض الحوادث المتفرقة التي تقلّ فيها الطرافة، وتخلو من علاقة بالهيكل القصصي العام. لكنّه الهيكلُ نفسُه، القائم مثلما أسلفتُ على الاستطراد، ما يُعطي شرعيّةً لهذا التشظي، ويجعله مراكمةً سرديّةً طبيعيةً. ثمّ إن الكاتب، حاول أن يخلُص في نهاية سرده إلى بعض المعاني، معتمدا على الرّمزية، وهي سلاحُه الأدبيُّ الأنجع ولا شكّ. لقد بدأت سيرةُ الجيلاني، بسيرةِ جدِّ جدِّه، عامر ولد حمد، ذلك الرّجل الذي انبثق من الطاعونِ، مثلما انبثقت قريته من عين ماء وواد يحيط بهما الموت من خلف الجبالِ. واستمرّت رحلةُ الحياةِ فيها، صراعا مع كلِّ شيءٍ تقريبا، الاستبدادُ، والاستعمارُ، والنازيّةُ، والجهلُ، والطبيعةُ القاسيةُ، لكنّ الأشدّ وطأةً على الجيلاني، وقومِه، كان دوما الاحتقارَ. وذلك، كانت محاكمة الجيلاني في نهاية الرواية، استعادةً لحسابٍ قديمٍ جوهرُه تأفّفُ المُعمِّر كولان (لاحظوا التقارب بين Colin و Colon) من احتضان المرّوكي غداة هزيمة النازية. وبهذا المعنى تأخذ سيرةُ الجيلاني بعض قيمةٍ، إذ ليسَ أضرَّ على الاحتقارِ والتجاهلِ والتهميشِ، من أدبٍ يحفرُ خطابَ المهمّشِ عميقا في ذاكرةِ المستقبلِ. ...more
بداية جذّابة وطريفة، ثمّ متن على قدر من الملل، ثم خاتمة تشبه عالم الكورونة الذي طبع عميقا تفاصيل الكتاب. ومن المؤكد أنني أظلم بعض أجزائه إذ أختزل الكلبداية جذّابة وطريفة، ثمّ متن على قدر من الملل، ثم خاتمة تشبه عالم الكورونة الذي طبع عميقا تفاصيل الكتاب. ومن المؤكد أنني أظلم بعض أجزائه إذ أختزل الكلام وأردّ تجربتي مع الكتاب إلى جملة واحدة. ولكن هذه الرواية القصيرة، خفيفة حقا، ورغم محاولات التكثيف فقد شعرت في كثير من الأحيان بفراغاتِها. ثمّ تلك المقاطع الرطينة من الحقوق. لقد كانت أضعف ما في الكتاب، وربما لو تروّى الكاتب قليلا قبل أن يكتب أغلبها، لجاءت هذه المأساةُ أكثر أناقة ومتانة. ولكن هذا هو عالم كورونة حقا، حين قوّضت الوحدة شكل البناءات الفنية، وجعلت من الكتابة صدًى لذاتِها. أدوات ما بعد الحداثة كثيرة وواضحة هنا، ليس لغايات تجريبية ولكن لحاجة تعبيرية لا تدرك إلا بهذا الشكل.. ليس الكتاب تأمّلا في الكتابة، بقدر ما بدا لي مناجاة بين الذات الشاعرة والذات الكاتبة....more
ليس هذا الكتاب الأوّل الذي أقرأه بعربية تونسية. ولكن، قد يكون الأوّل الذي يؤمن صاحبه إيديولوجيا بضرورة الاعتراف بـ"الدارجة" كلغة قائمة بذاتها. بالنسبةليس هذا الكتاب الأوّل الذي أقرأه بعربية تونسية. ولكن، قد يكون الأوّل الذي يؤمن صاحبه إيديولوجيا بضرورة الاعتراف بـ"الدارجة" كلغة قائمة بذاتها. بالنسبة لي، وأنا أقرأ هذا النصّ، لم أشعر أنني لا أقرأ نصّا عربيا. النص غير فصيح ولكنّه عربيّ.
يقول صاحبه إنّه اتّبع منهج "الأوّلين" الذين كتبوا بما يسمّيه دارجة مخلوطة ببعض الكلمات العربية. وما أسمّيه أنا دارجة بملء معناها. لأن الدارجةَ كلماتٌ عربيةٌ أساسا. معجمٌ مختزلٌ من كلامِ العربِ، وبُنًى مبسّطة من بُنى الجمل العربية وطرق تصريفها. حتى في استعمال كلمات فرنسية، فهي تُعرَّبُ أو "تُتونسُ" فتأخذُ صِيغًا صرفيّةً عربيةً خالصةً، وتُجمعُ جموعَ تكسيرٍ يفهمها حتى العربيُّ في اليمن.
من المثيرِ أن الرّوايةَ التي يُحاولُ صاحبُها التنصُّلَ بنصِّها من لغته (لغة النص)، تأخذُ بطلَها إلى اليمنِ، مؤكِّدةً على تلك الثقافة المتصلة وذلك المصير المشترك الذي أثبت حقيقته في فجر الربيعِ العربيِّ، وللأسف في غسقه أيضا. وبين تلكم اللحظتين الكبيرتيْن، امتدّت كلّ أحداث الرواية تقريبا، واقتفت مع راويها، غير الموثوق به، ومع سيرةِ سامح الصاخبة، قصّةَ ثورةِ الشّباب والكرامة بتجلّياتها المختلفةِ، قصّةَ الثورةِ بوصفها صرخةَ جيلٍ بالأساس. وهو ذلك الجيلُ الذي رغب عبر التصويرِ الخجولِ، والكتابة السرّيةِ والعملِ الفرديِّ أن يأخذ موقعه الطبيعيَّ من الدنيا، ويصنع واقعا مجتمعيّا جديدا يعيشُ فيه. فإذا بِه غريبٌ عن نفسِه، أو عاطلٌ، أو منفيٌّ، أو سجينٌ، أو مغتَصبٌ أو مذبوح. وإذا به يُرغمُ إرغاما على الانتقال للعيش في واقعٍ افتراضيٍّ مزيّفٍ وقد احتشد البوليسُ والإرهابيّون والسياسيون على رقعة الواقعِ الفعليِّ ولم يتركوا مكانا شاغرا. "تصاور عالحيوط" عنوانه، والتصويرُ مهنةُ بطلِه أو اختصاصُه، ولكنّ الكتابةَ باللهجة الدارجة محورُ الكتابِ وأساسُ بنيتِه القصصيّةِ. حتّى إن الرّاوي (والكاتب من ورائه) حاول في لحظة ما تدارُك هذا الخللِ بتكثيفِ الصور الفوتوغرافيّة الملحقةِ بالقصةِ. ولكن، هل يمكن اعتبارُ الصّورةِ جزءا من العملِ الأدبيِّ؟ وهل استحال البحثُ عن طرقٍ تعبيريّةٍ أدبيّةٍ تسمحُ بترجمةِ أعمالِ البطلِ الفوتوغرافيّةِ إلى كلماتٍ؟ وهل الأدبُ إلا ترجمةُ الأحاسيسِ والموجوداتِ والأفكارِ إلى كلامٍ؟ وهل الكتابُ في النهاية إلا "جوابات تحت الياسمينة" عوضَ "تصاور عالحيوط"؟
انبنت القصّةُ على هذه الجواباتِ، فأغلبُ الفصولِ انهماكٌ في إحداها، إمّا بنشرِه كاملا أو مشطورا ومرفوقا بتوضيحاتٍ من الراوي، وأحداثٍ إضافيّةٍ تقفز بنا عبر زمن الأحداثِ فتتقدّم وتتأخّرُ ببراعةٍ ودقّةٍ. فإذا كان الاسترجاعُ flashback تقنيةً دارجةً في الأدب العربيِّ الحديثِ، فإنّ الاستشرافَ flashforward عملٌ نادرٌ ويحتاجُ إلى حرفةِ جرّاحٍ ماهرٍ. والحقيقةُ أن حسام شحدورة كشف عن قدرةٍ مدهشةٍ في غزل النسيج السرديِّ، واللعبِ بتقنياتِه المتنوّعةِ. لم أكن أحبذ في الفصولِ الأولى، عادةَ التعليقِ على الرسائلِ، وكنت أفضّلُ أن تكون وحدَها دون تدخّل الراوي، ثمّ لم ألبث أن أدركتُ لعبةَ الكاتبِ الجميلةِ، واندمجتُ معها. وتفاعلتُ مع شخصيّة الراوي التي رغمَ ما توحي بِه من سلبيّةٍ وانعزال عن معتركِ الأحداثِ، فقد كانت الأكثرَ إثارةً. شيءٌ شبيهٌ بروجر كينت في فلمِ المشتبه بهم المعتادون (The usual suspects). وعلى عكس ما يحدثُ في الأفلامِ، فقد كان من الصعب على الكاتب الخروجُ بسهولةٍ من قالبِ الرّاوي المُهيمنِ على الحقيقةِ، لكتابتِها من وجهةِ نظرٍ أخرى، فكان نشرُ الرسالةِ الأخيرةِ غير مبرّرٍ تماما من جانب الرّاوي، لأنه يفضحُ بها نفسه ويُفشِلُ بها غرضَه المعلنَ على الأقلّ. أمّا إذا كان غرضُه المبطن، إضافةُ إثارةٍ لكتابِه هذا الذي ينشُرُه باستعمالِ رسائلِ "صديقِه"، والاستفادةُ من "تجلّيه" كشخصيّةٍ "شريرةٍ"، فلئن أصاب فيه فهو يجعل من تبريرِه لمشاعره إزاء الرسالة الأخيرة (ص168) ركيكا بعض الشيء. بوقفةٍ أطول أمام عبارة "ما نعرفش نكران والا خوف. والا ممكن زادة حبيتك ما تحكمش عليّ مالأول" نلحظ هذا الخلط بين الراوي والشخصية، أو بين زمن القول وزمن الأحداث. وهو أمر وإن بدا ركيكا هنا، فقد كان رائعا في أغلب قِطعِ الرواية، وخصوصا في المقطعِ الأخيرِ حينَ يرجعُ "سامح" شخصيّةً غيرَ ملموسةٍ بعدما كان حيّا طيلة الكتابِ، ويأخذُ مكانَه في فضاءِ الفكرةِ السرمديِّ تاركا لصانعِه، هذا الراوي، حقّ التفاعل المباشرِ مع القارئِ. الطريفُ في هذه العمليّةِ، أنّ القصّةَ كلّها لعبةُ كراسيٍّ بين الراوي وسامح، يتبادلان خلالَها أدوار الكاتبِ والقارئِ والشخصيّةِ، وهي عمليّةٌ طريفةٌ أفرزت مساحاتِ قولٍ مغريةً لولا خيانةُ اللغةِ التي أثبتت في أكثر من مرّةٍ عجزها عن الأفكارِ المركّبةِ والحاجة إلى الإيجازِ والتكثيفِ.
لم تخلُ الرّسائلُ من هلهلةٍ لغويّةٍ هي أسوأ ما في الكتابِ رغم تأسيسه عليها. بع�� الرسالة الثانية، تساءل الراوي: "شبيه يشعر عليّ" وهنا فقط انتبهتُ إلى أن الرسالة مسجوعة، وغرضُها شعريّ! ومع تتالي الفصولِ، أخذ القالبُ الشعريُّ يتشكل والنفسُ الشعريُّ يزدادُ سوءا (ليس دائما)، "بصراحة حكاياتك تربي" و"آه حقا نسيت … تي شبيك بخيل!" (ص38)، "حط صغره في صنادق، الفاليجة صارت رزينة، صار لازم يخفف… أما زايد، السفر ما يستحملش الحمل، لازم ينحي ال��ايد، هكا لازم، لازم ينقص الزايد ويخلي كان اللازم" (ص63) والزوائد الكلاميّة كثيرة في هذه المقاطع الشعرية التي يفترض منها التكثيف والإيجاز والمجاز. وفي أحيان كثيرة تجد ركاكةً لا تشبه بلاغة الشعر، وتجد تشبيهاتٍ نمطيّةً يملّ القارئ سماعها مثل قصيدة الجواب العاشر، وقصيدة الجواب احداش (ص99) الخ. وحتى لا يُفهم قولي خطأ، لأنني في قراءتي للكتاب ـ أي كتاب ـ أتخلّى عن إديولوجيتي، فحتى القصيدة المكتوبة بلغة فصيحة، لم تكن كذلك كثيرا. تشكيلٌ لغويّ مفعم بالسجعِ لا يكادُ يتجمع حول صورةٍ مُبينةٍ (ص103). وبعيدا عن الشعر، فلم تتميز لغة حسام شحدورة بقدرة بلاغية كبيرة، رغم كمّ الأفكارِ الجميلةِ المتوالدةِ منها، ولا داعي لأن ألاحظ ببراءةٍ أنّ الكلامَ كلّما حاول التوغّل في أعماق الفكرة ازدادت غرابةُ المفرداتِ عن دارج الكلامِ وازداد استعمالُ مفرداتٍ تُعزى للفصحى دون سواها. وحتّى أكثر العبارات تكرارا في كامل النصّ (عزيزي مولى الدار المزيانة اللي خارجين منها زوز ياسمينات)، نجدُها تبدأ بجملة نداءٍ لا تُقال في الدارجة بين رجليْن. وعلى كلّ حالٍ فإنّ نسبة الأخومانسية Bromance في الكتابِ عاليةٌ حتّى الالتباسِ في البداية. ثمّ لا نلبث أن ندرك أن الكاتب مرهفُ الحسّ حقا. مرهفُ الحسِّ إلى درجة كبيرة من الشاعرية، ومن العاطفية حتى إنني أخشى عليه من انتقادي للغته.
وعلى كلّ حالٍ فالكتابُ رحلةٌ قصصيّةٌ جميلةٌ في ذاكرةٍ خاصّةٍ مشتركةٍ في آنٍ، لا تفصلُها إلا سنواتٌ قليلةٌ لتصبح وثيقة تاريخيّةً مهمّة لمرحلةِ هزيمةٍ مُحبطة. ...more
رحلةٌ في "تراب سخون" (لا يوجد حرق تقريبا إلا في القسم ـ vii) -------------------------------- ـ i لا أعرفُ لِمَ تُصرُّ أستاذة اللغة العربية أميرة غنيم، علرحلةٌ في "تراب سخون" (لا يوجد حرق تقريبا إلا في القسم ـ vii) -------------------------------- ـ i لا أعرفُ لِمَ تُصرُّ أستاذة اللغة العربية أميرة غنيم، على أنّ روايتها، تراب سخون، ليست تاريخيّةً*. ربّما لأنّ الروايةَ التاريخيّةَ عندها، تمتنع عن التخييلِ وتقتصر على الوقائع. كيف تمتنع الروايةُ، أيّةُ روايةٍ مهما كان جنسُها، عن التخييل؟ عن نظم حوارٍ لم يسمعهُ أحد، ووصفِ شعورٍ لم يخرج من صدرِ صاحبهِ، وتعويضِ لحظةِ عدمٍ في فضاءِ الذاكرةِ الرّاويةِ، بخيالاتٍ أجمل من الحقيقةِ نفسِها؟ لا شكّ عندي أن "تراب سخون" روايةٌ تاريخيّةٌ، بل هي روايةٌ تاريخيةٌ بامتيازٍ كما يقتضيها هذا الصِّنفُ. إذ حُدّدت فضاءات أحداثِها (المكانية والزمانية) بدقّةٍ متناهيةٍ**، وأغرقت في غمرةِ حقبةٍ صاخبةٍ من تاريخ تونس، ومُنحت شخصيّاتٍ رئيسيّةً لها، أعلامًا مازال صدى حضورِها يتردّدُ في حاضرِ البلادِ: رئيس جمهوريتها الأوّلُ الحبيب بورڤيبة، وزوجتُه أو طليقتُه وسيلة بن عمّار، بطلةُ القصّةِ وراويتُها الرئيسيّةُ من بين أخرياتٍ. ـ ii وكما حدث في "نازلة دار الأكابر"، وزّعت أميرة غنيم رواية الأحداث على شخصياتٍ متنوّعةٍ. ولئن اقتصرت على ثلاثةٍ أو أربعة (وسيلة، سعاد، درّة، جاكلين… لا أذكر أخريات) مقابل إحدى عشر في النازلة، فقد اتّخذ التوزيعُ السرديُّ هذه المرّة شكلا أكثر تعقيدا. ليس لمراوحتِه بين شكل الرسالةِ والتفريغ النصيّ لتسجيلات صوتيةٍ، إذ لم أجد فيهما طرافةً تُذكرُ (عدا فكرةِ أغاني الاستهلالِ الّتي لم يفد منها النصُّ ولا لغتُه). وإنما، لتأسُّس السردِ على الاستطرادِ والتبئيرِ Mise en abyme بكثافةٍ مدهشةٍ. يمكن مقارنةُ حجم هذا العملِ على الشكلِ برواياتٍ مُلهمةٍ مثل باب الشمس لإلياس خوري، أو البحث عن وليد مسعود لجبرا إبراهيم جبرا. لا يروم الاستطرادُ إطالةً مجانيةً، وإنما هو آلةُ الخياطةِ التي تنسجُ ثوبَ القصّةِ وتشيرُ إلى منعطفاتِها وطيّاتها. أمّا التبئيرُ فيخرجُ من الحكاية ليمدَّ في أوصالِها، ويدفعَ بحدودِها نحوَ تخومٍ تاريخيّة جديدةٍ. تنتهز الشخصيةُ دورها في الكلامِ، لتندفع في سردِ قصّةٍ تنسينا الموقف السرديّ الذي بدأ منه القولُ، وتتداخل القصّةُ في القصّةِ، كما يحدثُ في ألفِ ليلةٍ وليلةٍ، وينتقلُ التشويقُ المُستفِزُّ من حادثةٍ إلى الأخرى، فما إن تنتهي ونظنّنا عند فاصلةِ الاستراحةِ، نرجعُ إلى القصّةِ الرئيسيّةِ، ونتذكّر شهرزاد/وسيلة التي يجب أن تبلغ مرادَها قبل أن يكشف أمرها أحد شهريارات البلاد من رجالِ شرطةٍ، ومخبرين، وأعوانٍ. وفي كلِّ مرّةٍ كان الكذبُ/القصُّ وسيلةَ الخلاصِ. وفي كلِّ مرّة، يفضحُ جمالُ النصِّ، وبلاغةُ التعبير، عن حقيقةِ أنّ شهرزادَ الحقيقيَّة ليست إلا أميرة غنيم نفسُها. ليس التشويقُ إلاّ أحد أسلحتِها، فهاهي تُخرجُ تباعا لغةً أكثر خصوصيّةً من تلك التي نقرؤها في "النازلة"، لغةً تحافظُ على كثافةِ أساليب البديعِ فيها، ولكنّها تدعمُها بألوانٍ من البلاغةِ التونسية الأصيلةِ. ينتشرُ أسلوب الدعاءِ، والمثل في أرجاءِ النصِّ، وتتناثرُ مفرداتٌ عربية أهملتها ألسنةُ العربِ إلا التونسيّة منها. بل لا ترى الكاتبةُ حرجًا في إدراجِ مفرداتٍ أعجميّةٍ مُتونسةٍ مثلما فعل كبار الأدباءِ في مصر ولبنان من قبلُ. ولاح واضحا حضور خبيرة الألسنياتِ، كأنما تنفخُ في النصِّ روحَ عربيّةٍ تونسيّةٍ أصيلةٍ. وإنّي لأعتقد جازما أنّ روايةَ "تراب سخون" هِبةُ لغتها أولا وأخيرا. ـ iii ذلك أننا لو نقلنا أعيننا إلى محتوى الكلامِ لما وجدنا أشياء كثيرةً، وهو ما افتقدناه مقارنةً بالنازلة. لقد استعادت أميرة غنيم في "تراب سخون"، ذات الوصفة القصصية تقريبا، فهناك "كنه غامضٌ" يجب أن نقرأ الكتابَ كلَّهُ للوصولِ إلى حقيقتِه، وهناك مقابلةٌ حاسمةٌ بين رجلٍ وامرأةٍ يتمحورُ حولها الكتابُ، وهناك سردٌ نكتشفُ تفاصيله من زوايا نظرِ شخصيات متنوّعةٍ، وهناك امرأةٌ هُضمَ حقُّها في المساهمةِ في روايةِ التاريخِ. وفي حين لاذت زبيدة، بطلة النازلة، بالصمت المطبقِ، فقد آثرت الماجدة وسيلة أن تستأثر بمساحة القولِ، وتشذبَ وجه الحقيقةِ. وليس لنا والحال كذلك، إلا أن نستقرئ رغبة "شهرزاد" في الانتصار لبنتِ جنسها. فلم تكتفِ بمنح صوتٍ لزوجة الزعيمِ، بل أيضا لممرّضتِه، وابنتها، ونساءٍ أخرياتٍ فضّلتهنّ على صوتِ بورڤيبة نفسِه، كأنما قدّرت أن حسبُه سيطرته على التاريخِ، فليدع لهنَّ الأدبَ. ثمّ إنّ الرواية في النهايةِ إعادةُ كتابةٍ لتاريخِ الرّجلِ من وجهةِ نظرِ خليلتِه ورفيقة دربِه، بل إعادةُ رسمٍ لصورتِه في المخيّلة الجمعيّةِ. محرِّر المرأةِ الذي اتضح أنه يعتبرها ملكه، ويخونها، وربما يضربها. على أنّ الكاتبةَ تتنصّل من مسؤولية هذه الصّورةِ الصّادمةِ، فتتراجع مفسحةً المجالَ لراويةٍ غير موثوقٍ بها، هي وسيلة. ثمّ تأتي لنا بسعادٍ أحيانا، لتصحّح بعض ما قالته الماجدة، وتنبّهنا من الوثوقية العمياء في ما يرويه الرواةُ ولو كانوا وسيلة نفسها. ـ iv هذه حيلةٌ لا أحسبها تنطلي على القارئ الفطنِ، فليس المهمُّ أن تعدَّل رؤية الماجدة برؤية الزعيمِ، بل المهمُ�� أن خطابَ الأولى طغى على مساحةِ الكتابِ، وزرعَ أثره في نفس القارئ. لقد تجلّى الزعيمُ رجلا ذكوريّا لا يختلفُ عن غيرهِ إلا بمنصبِه وثقافتِه وجاذبيّتِه. لا يمثّل الحبُّ عنده إلا عَرضا جانبيّا أمام جوهرِ الوطنِ الذي وهبَه نفسَه حتّى اختلط عليه الأمرُ ولم يعد يميّزُ بينهما (ذاته والوطن). أمّا عند وسيلة، فقد كان الوطنُ عرضا، وكان بورڤيبة هو الجوهرَ كلَّه. لهُ تحدث المظاهراتُ، ومن أجلهِ تدسُّ الطعمَ للزعماءِ وتراوغهم، وحفاظا عليه تصارعُ العالمَ. فهل هذا هو التصوُّرُ النسويُّ عند أمير غنيم؟ سنلاحظ أنّ بطلاتِها يحمن دوما حول رجلٍ مميّزٍ، هو منبعُ القصّةِ ومن أجله يحدث كلّ شيء. وهنّ بذلك لا يختلفن عن أميراتِ ديزني. ـ v دعك من بطولات الماجدة، وقدراتِها السياسيّة الخارقة، ففي أفضل الأحوال، تصيبُنا بدهشةِ قصصِ "بوك عكرّك" أو "جحا"، ذلك العربيُّ المغلوب على أمرِه الذي جعلَ من الحيلةِ والارتجالِ، فنّا طريفًا ومُجزيا، فليس عند العامّةِ غيرُ ذلك، لحماية أنفسهم في نظامٍ استبداديٍّ ينتج نفسه بلا نهايةٍ. أما عندما يتعلّق الأمرُ بأعلى هرم في السلطةِ، فلا تدلُّ حِيلُ وسيلة بن عمّار إلا على جهلِ السّلطةِ بأبجديات الدولة الحديثةِ. لقد اندهشتُ وأنا أقرأ مواجهاتها مع جهاز الشرطة الذي ساهمت في تأسيسِه رفقة زوجها بخياراتهما وتصوّرهما للدولة. كيف لم يخطر ببالها السؤال البديهيُّ عمّا/عمن حوّل جهازَ حماية الناسِ إلى جهازٍ لقمعهم؟ وكيف لم تتبنّ أميرة غنيم هذا السؤال أو تلمّح إليهِ مثلما تبنّت أفكارا أخرى لبطلتِها؟ فهل غابَ السؤالُ أم كُتِم؟ وهل تُراها، حين تشهدُ بلسانِ بطلتِها على جدارةِ بن عليّ بالحكم لمهارتِه البوليسيّةِ، تبالغُ في تقمّص شخصية وسيلة، أم تبرزُ رأيًا ربّما لا تعارِضُه كثيرا؟ ـ vi قد أميلُ إلى الاحتمال الأوّلِ دون أن ألغيَ الثاني، إذ نجدُ في نهاية الرواية ما يشبه الإلحاحَ على تعديلِ آراءِ وسيلة عبر بورڤيبة نفسِه. ولا أدلّ على ذلك من لغز الحزامِ المعدنيّ ووفاء الزعيمِ لنزعتِه العقلانية التي ترفض الانصياع إلى ما وراء الطبيعةِ (وهذه مقابلةٌ نمطيّةٌ أخرى بين صورة المرأةِ المأخوذةِ بالغيبيّاتِ، وصورة الرجل المتسلح بالمنطق في آخر لحظات شيخوختِه). ولا يتنكّر الزعيمُ لمبدئه إلا في مفهومهِ للسلطة والحكم. إذ يخلصُ إلى استنتاجٍ بسيطٍ وواهن جوهرُه ثقةُ الزهرة في النحلةِ، والغدر المخرّب للعمران. إذ يجعله من زُمرةِ اللاوضعيّين الذين يستنجدون بقِيمٍ لا عقلية لتفسير الأشياء؟ فما يجمع الزهرةَ بالنحلةِ ليس إلا المصلحة المشتركة، وحاجةَ كلٍّ منهما للآخرِ، وليس مجازَ الثقةِ وأخلاقيات الغدرِ والوفاءِ العصيّتيْن على السيطرة الوضعيّةِ. ـ vii لا تفطن الكاتبةُ إلى هذا الانزلاقِ. وحسبُها رفضُ الرئيسِ العجوزِ للتفسير الميتافيزيقيِّ لوجود السلسلة المعدنيّةِ، تأكيدا على نهجه العقلانيِّ. أمّا الماجدةُ، فرغم إيمان طليقِها بأنها في سريرتها توافقه، فقد أصرّت على الإقرارِ ببعدٍ غيبيٍّ للـ"شيء" والتعامل معه على هذا الأساسِ سرّا وعلانيةً، أمام بورڤيبة، ومن ورائه. وتبدو الكاتبةُ أميلَ لتفسيرٍ مشابهٍ وإن توارت خلفَ أكمةٍ من الرّواةِ والرّسائلِ، فهي على الأقلِّ تقرُّ بقيمةٍ مجازيّةٍ للـ"شيء". قيمة مزروعة في تراب قرطاج منذ آلاف السنين، جاء المجاهد الأكبرُ وزوجُه فاستخرجاها وظلت عندهما حتّى طالته "يد الغدر" فباعدت بينه وبينها. وحين توفّيت وسيلة، عادَ "الشيء" إلى التّرابِ تحت شجرة الزيتون (وهي ماهي من الرموز التونسية)، وما خرج إلاّ لتتنازعه الأيدي الفرنسيّةُ وجسدُ شابّةٍ تونسيّةٍ، في زمنٍ سُمّيَ بالربيع العربيِّ وتتحفّظ الكاتبةُ (كما ورد في لقاءاتٍ أدبية) أن تعتبره كذلك. ينطبق كلُّ هذا على فكرة السيادةِ الوطنيةِ كما يمكنُ أن تُوصفَ في خطابٍ حداثيٍّ تونسيّ تقليديٍّ، يعتبر البلادَ منذ حلول الرومانِ، محلاّ للسيادة الأجنبيةِ. فلم تستعد تلك السيادةَ التي حازتها زمن قرطاج (هل كانت حقا سيادة وطنية آنذاك؟) إلا مع بورڤيبة. ولمّا جاءت الثورةُ، لاحت آمالُ استعادةِ السيادةِ على أيدي جيلِ الشباب الذي تمثّله "آمال"، لكنّ يد الغدرِ الخارجيّةِ "سرقت" ماهو حقّ للتونسيين. ـ viii وأيا كان تأويلُ هذا الشيءِ، فلا شكّ أن إقحام العجائبيّ في أدب أميرة غنيم ليس اعتياديّا. فهل تراه نتاج اطلاع على عوالم (روايات الجيب التونسية) لدار "بوب ليبريس" التي نشرت لها "الملفّ الأصفر"؟ وهل تراها تأثّرت بتيارٍ قوميّ يدفع نحو تصوّرٍ "مقدّس" للجذور القرطاجيّةِ لتونس؟ من المحبطِ أن تختزل "تراب سخون" الحديثَ عن السلطة في غوايتها، وفي إتقانِ وسيلة للعبة الكراسي. ربّما لأن أميرة غنيم أحبت أن تظلّ وفيّةً لرؤيةِ شخصيّتِها السطحيّةِ، محتفظةً، ربما، برؤية أكثر دسامة، لروايةٍ قادمةٍ عن بورڤيبة، ملمّحةً في مقاطع عابرةٍ عن اختلافِ اهتماماتِه، وانغماسِه في تفاصيل البناءِ نفسِه. إنّي لآملُ ذلك، لأني لم أجد في متن هذه الرواية ما يعادلُ شكلها الناضجَ والمتقن أيّما إتقانٍ. وهو ما يجعلني أتطلع لروايتها القادمة بأمل في روايةٍ أفضل. ----- * راجع مقابلاتِها الإعلامية: https://www.facebook.com/elmatinale/v... ** فقط هفوات بسيطة لا تؤثر على مستوى الرواية، مثل أن التلفاز كان مستحيلا على وسيلة في الثلاثينات عكس ما ذكرته في مقطع البحث عن دلالات الدلافين، وأنّ ريف عين غلال ليس في "مدينة" بنزرت ولا حتى قربها، وإنما في معتمدية أوتيك من "ولاية" بنزرت....more
توجد أفكار جميلة بين دفتي هذا الكتاب، وأحيانا يتجمّل النصّ ويأخذ شكلا واعدا، مثل "تالا" و"صحراء". على أنّ أكثر القصص هنا مبتورة، كأنها مشاريع روايات قتوجد أفكار جميلة بين دفتي هذا الكتاب، وأحيانا يتجمّل النصّ ويأخذ شكلا واعدا، مثل "تالا" و"صحراء". على أنّ أكثر القصص هنا مبتورة، كأنها مشاريع روايات قصيرةٍ تكاسلت الكاتبة عن تجاوز مقدّمتها، أو كأن أحدهم يهمس في أذنها في كلّ مرة أن قد تجاوزتِ مقدارا من الكلام عليك أن تتوقفي بعده... في كلّ قصّة تراوغنا المقدّمة بتفاصيل كثيرة تعرّج على إحداها لتواصل السرد وتتجاهل البقية كما تتجاهل مقتضيات الأقصوصة من تكثيفٍ. تجد الكاتبةُ نفسَها الكاتبة في القصص العجائبيّ والأسطوريّ كما هو واضح. ثمّ هناك "قصةُ القصة" أو "ما وراء القصة" أو metafiction إذ يبدو أنها تشكّل كذا عوالم براحة واستمتاع، وتتمكن من التعبير عن ذاتِها من خلال هذه النصوص بشيء من الأصالة وإن لم تتميّز هذه النصوصُ بالطرافة البالغة. ثمّ هناك تلك القصص الساخرة ذات الطابع الاجتماعيّ وأكثرها سيئ وفي تعابيره بذاءة رخيصة، كاستعمال "ضبوط القردة" للدلالة على المكان البعيد الذي لا يطيب فيه العيش. أو استعمال "قرعة العطش" اسما لمنطقة فيها الضياع والزراعة والحيوان أي ليس فيها عطش. وعموما لا تتميّز اللغة في هذا الكتاب ببلاغتها، فتغلب الركاكة على تركيب الجمل، وتغلب الجمل الإسمية المركبة على الجمل الإسمية البسيطة، ويغلب استعمال الضمائر المنفصلة في غير داعٍ كأنها فعل الكينونة في اللغات الأوروبية. ولم تساعد دار النشر "زينب" كثيرا في تهذيب النصّ وتخليصه من أخطاء الرسم الكثيرة. لا فرق بين همزة القطع وهمزة الوصل هنا، ولا بين الضاد والظاء، فكانت تجربة القراءة مضنية.
من المؤسف أن لم يقل أحد هذه الأشياء للكاتبة ربما منذ فازت بجائزة القصة القصيرة ذات يوم من سنة 1996 فإذا بها تنشر هذا الكتاب سنة 2019 وفيه ما فيه من العيوب التي كان بالإمكان تلافيها. فللكاتبة، رغم كل هذا، ذهن صاخبة، وخيال يريد أن يرسم الكثير من الأشياء الجميلة....more
أكتشف حسن أوريد عبر هذه الرواية، أو ما قُدِّر أنها كذلك. فلا شكّ أنّ الإطارَ روائيٌّ بشخصيّةِ الرّاوي، وحدثِ زيارة المتنبّي لزمنِه المعاصرِ، ومكانِه أكتشف حسن أوريد عبر هذه الرواية، أو ما قُدِّر أنها كذلك. فلا شكّ أنّ الإطارَ روائيٌّ بشخصيّةِ الرّاوي، وحدثِ زيارة المتنبّي لزمنِه المعاصرِ، ومكانِه من الرّباط عاصمة المغرب، والمشكلات الدرامية التي انبثقت عن هذا الحضور، ونقلت الأحداث إلى رباط آخر، هو مستشفى المجانين. حتّى إننا نلمسُ محاولةً من الكاتبِ لاستحداثِ توازٍ بين حياةِ بطلِه وحياةِ المتنبّي: التمرّد على الحاكم، السجن، المرض، الحبّ المحرّم تجاه من تسمّى خولة الخ... وهي طبعا تلك اللحظات التي تسمح أيضا باستحضار شعر المتنبي بكثافة ممتعة. ورغم كلّ ذلك، فلا تكاد الدراما الروائية تؤثّر كثيرا على جملة النصّ الذي يغلب عليه أدب "الفكر" أو ما يسمّيه الفرنسيون المحاولة l'essai في مستشفى المجانين، حيث تدور أغلب أحداث الجزء الثاني، يتبلور جانب دراميّ بسيط، تأخذ فيه العلاقات بين الشخصيات في التشابك. فتحضر شخصيات المجانين حول المتنبي، الزهرة وابن جني وكافور. ويحضر الماجور، والممرضة والطبيبة فنيش. ولكنه جزء دراميّ بسيط ولا يتميّز بالطرافة. يستعمل أوريد الدلالات ذاتها التي نجدها مع كلّ استحضار روائي للمجانين: هم أكثر عقلا من العقلاء. هم سجناء الجسد، أحرار الروح. كلامهم المُلغز كالأحاجي ينضح بالحكم. إلى غير ذلك. ولحسن الحظّ فإنّ دلالات الصيغة الروائية، تتجاوز فكرة المجانين ومشفاهم، إلى ما يتعلّق بحياةِ الراوي وعلاقتِه بالآخرين، مثل بشرى وليلي وابنه سامي، وخولة، والمتنبي نفسِه.. وعوض أن يترك للروايةِ وأحداثِها وتركيبتها الدرامية، مهمّة استحضار تلك الدلالات في ذهن القارئ، اختار الكاتب أن يتجاوز التضمين نحو التصريح، بمقاطع بوح طويلةٍ يشرح خلالها المعنى والمقصد، والموقفَ. ويعبّر عن غضبه وحبّه وحيرته وآمالِه ككاتب أكثر منه كشخصية.
في رباط المتنبي يظهر حسن أوريد كرجل أدب، عاش فعلا مع المتنبي ورافقه طويلا واطلع جيدا لا على ديوانِه فحسب، بل على ما كتبه الأسبقون عنه أيضا. وربما يناقش أحيانا رأي المعرّي أو طه حسين أو غيرهما في شعر أبي الطيب. على أنّ ما يبتغيه ليس التوقف عند عبقريته الفنية، وإنّما إسقاط شعره على الثقافة العربية برمّتها ومحاولةَ تفكيكِها والبوح بعلاقتِه الملتبسةِ بها كجزءٍ من هويّته. والحقّ أنّ حسن أوريد خاب في الأولى وأبدع في الثانية. ربما لأنّ البوحَ منسجمٌ لطبيعتِه الذاتيّةِ بلغة الأدب وأسلوب الإنشاء. أما التفكيك فبحاجة إلى لغة أكثرَ صرامةً ودقّةً لم تتوفّرا في هذا الكتابِ. فجاءَ نقدُه للثقافة العربية، استعراضا سطحيا لما جاءت به قريحة الأولين مثل جورج طرابيشي، وتكرارا لأفكارٍٍ فقدت بمرور الزمن، طرافتها ودقتها ونوقشت وتمّ تنسيبُها. فلا التاريخ العربيُّ أكثر دمويّةً من تاريخ الغربِ أو الشرق الآسيويِّ، ولا التاريخُ الإسلاميّ أشدُّ فظاعةً من تاريخ المغولِ أو الرومان أو الجرمان أو الأحباش أو غيرهم من الأممِ... ولا الثقافة العربيّةُ في أسسها حبيسةٌ للعاطفة والانفعالِ كما سوّقت لذلك الرومانطيقية الغربيةُ. وحسن أوريد في إنكارِه المنطق على الثقافة العربيةِ، يذهب إلى حدّ إنكارِ الحقائق التي يعرفُها، إذ ينكرُ انتساب الخوارزمي للثقافة العربية وهو الذي كتب الجبر والمقابلة باللغة العربية لا الفارسية، وينكر انتساب ابن خلدون إلى الثقافة العربية ��هو ابن مدينة تونس، وسليل تعليم الزيتونة. وله مشكلات منطقية عديدةٌ في خطابِه القائم على انتقاد افتقار الثقافة العربية للمنطق.
فالكتابُ لو رأيناهُ روايةً متوسّط الجودة، ولو رأيناه أدبا أو محاولةً فهو فقير الجودة، ولو رأيناه كخاطرة طويلةٍ أو كشبه سيرة ذاتية، فهو على قدر رفيع من الجودة حتّى والكاتب يصرُّ في لقاءاتِه على أنه ليس كذلك!...more
ربما كنت من القلائل الذين يحكمون على الكتاب من غلافِه، وعلى الفِلمِ من معلّقتِه الرسمية. طبعا لا أفعل ذلك بآليّة جامدة، وإنما لا يسعني إلا أن أفيد ممّربما كنت من القلائل الذين يحكمون على الكتاب من غلافِه، وعلى الفِلمِ من معلّقتِه الرسمية. طبعا لا أفعل ذلك بآليّة جامدة، وإنما لا يسعني إلا أن أفيد ممّا قرأتُ وممّا شاهدتُ سابقا لخلق حكم أوّليّ يدفع عنّي مشقّة قراءة ما لا لزوم لقراءته، ومشاهدة ما لا تنفع مشاهدتُه ولا تسلّي ولا تضيف أيّ شيء. ففي زمن الوفرة المبتذلة، لا خلاص لنا إلاّ بحسن الانتقاء. هكذا، رغبت عن قراءة أي شيء لآل الفازع طيلة سنوات طويلة. فلم تغرني المكانة الإعلامية التي يحظى بها "سي" الطاهر، ولا الضوضاء المزعجة التي ترافق ابنته فاتن وكتاباتِها منذ سنواتٍ، ولا حتى اطلاعي مؤخّرا على الجزء الثالث من مسلسل مكتوب لأختها درة. ثمّ جاء ترشيح روايتِها الأخيرة "أخفي الهوى" لجائزة البوكر، وحماس بعض المقرّبين لنصّها الأوّل "شيء من البحر فينا" ممن "كنت" أثق بآرائهم في الأدب، ما جعلني أستنجد بحسّ المرونة وأقول لنفسي ربما كنت مخطئا. وفعلا كنتُ مخطئا...
شيء من البحر فينا مسلسل تيلينوفا تونسية على شكل رواية. يمكنك وأنت تقرأ أن تضع وجوه ممثّلين على شخصيّاته، من بين أولئك الذين طالما أدوا في أعمال سامي الفهري. من ناحية، فالمسألة طبيعية بما أنّ درّة الفازع من بين بُناةِ العلامة التجارية "فكرة سامي الفهري"، ومن ناحية أخرى، حتى لو كنا إزاء الكاتب نفسِه، فيفترض أن نجد في الأدب ما لا تقدّمه المسلسلات التجارية التافهة. أعجب ما في العنوان أنه يعترضنا في بداية الكتاب، مكتفيا بعلاقة البحر بالدموع، ثمّ يختفي هو والبحر والدموع. أو ربما نلتقي بالدموع مرتين أو ثلاثا أخريين، ولكننا لا نجد من العنوان إلا ذلك الرابط الوهمي الفضفاض الذي يمكن إسقاطُه على أي رواية أخرى. هذا ديدن المسلسلات أيضا. فهناك نجد عناوين مثل "ليام" و"مكتوب"، وكلاهما من كتابتها. على أنني أتفهم أن تجد درة الفازع صعوبة في إيجاد عنوان لهذا الكتاب. إذ يصعب أن تجد له فكرة جامعة. مجرّد تشظّ دراميٍّ لشخصيات لا يجمع بين قضاياها ودلالاتها سوى الفضاء القصصيّ. ومثل بنى المسلسلات أيضا، ينقسمُ الفضاء إلى جزئين على طرفيْن من التناقض، أو هذا ما بدا في مُستهلِّ السّردِ، فهناك شخصيات من عالم الأثرياء جدا، أولئك المخدومون، المحصّنون من القانون. وهناك الفقراء جدا، وهم الخدم أيضا، والمعرّضون لظلم القانون وجورِه. أما الطبقة الوسطى، فهي هنا طبقة الأطباء، ومؤثّري الشبكات الاجتماعية. أي أولئك الأثرياء بقدر لا يسمح باشتراء الذمم لا غير. ورغم أنّ الرواية تهتمّ بلحظات الثورة الأولى، التي عكست فيما عكست هاجس الطبقة الوسطى من انكماش البلاد الاقتصاديّ وتراجع مقدرتها الشرائية، إلاّ أنّها قدّمت طبقة وسطى لا تملك مثل هذا الهاجس ولا يمثّل أمامها مشكلا، ذلك أنها جزء من الطبقة الثرية ليس إلا.
لا يعاني التشكّل الطبقيّ وحده من التطرّف السطحيّ هذا. بل تركيبة أغلب الشخصيات أيضا. الطيبون هنا، طيبون بشكلٍ ساذج، بل أبعد من ذلك، يتبنّون كلّ القيم "الطيبة" كما تحدّدها الكاتبة، ولو تعارض ذلك مع طبقتها الاجتماعية وتكوينها الثقافيّ. وفي منطقة شعبية (لا تستطيع أن تحدّد إن كانت قرية أم مدينة) عند تخوم العاصمة، حيث تسود الثقافة الشعبية المحافِظة، تقدّم لنا درة الفازع شخصيات تقدّمية بالفطرة لا بالثقافة، فمريم لا تتأثر بالخطاب الديني المهيمن حولها، وتعتبر الدين شأنا شخصيا، وتنفر من تزمّت ابنها الثاني، وتفرح بعلاقة ابنتِها مع الجنديِّ أحمد على حساب دراستها التي تضحي بكلّ شيء من أجلها. "لقد ��بّلني يا أماه"، تعترف القاصرُ لأمّها ولكنّ درة الفازع تتذكر أنها امرأة محافظة على كلّ حال فتقول بلسانها: ولكن لا تذهبي إلى أبعد من ذلك!
الطيب هنا طيب دائما تقريبا: مريم، نور، المحامي، الحكيمُ الغامض، ليتيسيا أو كومبا. والأشرار هم كذلك دائما، علياء، الأب، عادل… ولا نرى شيئا من الرمادي إلا مع شخصيات ثلاث، أوّلها مناف "الطيب" الذي تعرّضه الكاتبة إلى مواقف على قدر بسيط من التعقيد لتضفي بعض الرماديّة على سلوكه. المبادئ أم العائلة؟ تحديه الذي يمنح القارئ بعض التماهي. ثمّ غادة التي بدأت كشخصية "انتهازية" قبل أن تتحوّل إلى ملاك طاهر. وأخيرا تبقى شخصية بشر نقيض مناف، الشريرة بإطلاق، الضحية أحيانا، والصادقة في أغلب الأحيان. وباستثناء ما واجهه مناف، فالحلال بيّن والحرامُ بيّنٌ عند درة الفازع، وهي لا تخفي وعظها الإديولوجيّ في أيّ سطر من أسطر الرواية. لقد حاولت أن تغوص قليلا في شخصية عادل، لتبرز ما صنع هذا العنف فيه، فعادت إلى السطح سريعا. تكثيف في الخطاب الإنشائيّ والصور الشاعريّة التي لا تضيف الكثير، سواء على مستوى الفكرة أو على مستوى الشكل. ولئن كان الموقف واضحا تجاه الإرهاب، فإنه ينسحب كذلك على بقية "القضايا الاجتماعية" التي حاولت الكاتبة تكديسها حيثما حلَّت أحداثُ قصّتِها. ولستُ أشكّ أن الكاتبة لم تنتبه في غمرة نشوتِها بتتويج بطلتها بقصّة حبّ مع بطلٍ كاملٍ مثل أحمد، أنها تحتفي بعلاقة بين قاصرٍ (لا تدرس في البكالوريا كما هو واضح، أي لها سبعة عشر ربيعا في أفضل الحالات) وشخص راشد (في الجندية أي تجاوز العشرين على الأقل). ليس مهما طبعا، المهمّ أن "لا يذهبا إلى أبعد من ذلك"!
وحدها شخصية بشر تقريبا، من عكس خطابا فكريا متعاليا ربّما عن الخير والشرّ. وهو خطاب متكلّف لتكلّف هذه الشخصية المصنوعة من تصوّر نمطيّ لشخصية الـمعتلّ النفسي Psycho. يفضح النصُّ إعجابا بائسا بهذه الشخصية التي وكأنها تستبدل بها شخصيّة المنحرف النرجسيّ المبتذلة، كما تصرّح بذلك في إحدى صفحات الكتاب.
عمّ يتحدّث الكتاب؟ كما يحدث مع المسلسلات، فهو لا يتحدّث عن شيء تقريبا. إذ يوحي بناؤه بارتجالٍ بوهيميٍّ يختلق الأحداث بحسب ما يمليه تقاطع الشخصيات، ويختلق الشخصيات بحسب ما يمليه تراكم الأحداث. لهذا تلتقي كلّ شخصيات الرواية، في ذلك المستشفى حين إصابة نور وبشر. لم يكن هذا مخطّطا بقدر ما كان مؤسِّسا لما يليه. نحن في المستشفى، إذا لنستعمل الطبيبة، لنخلق لها قصة، لنربط قصّتها بهؤلاء الحاضرين، لنخلق منافا… هكذا يتمّ تطويع الشخصيات بحسب تطور الأحداث، وتتغيّر مصائرها ثمّ يتمّ تبريرها بلغة جميلة غير مقنعة. هذا النوع من البناء الروائي، هو أبسط نوع منها، ويمكن لأيّ شخص أن يصنع آلافا من الروايات بهذا الشكل. خذ أية شخصية، وانطلق بها إلى مكانٍ ما. افتعل حدثا، فكّر في أطراف هذا الحادث، حدد شخصياتهم، واتبع حيواتهم، ثمّ سوف تبدأ الدراما بمجرّد أن تربط حياة أحدهم بالشخصية الأولى. وحين تضع عددا لابأس به من العلاقات والمشاكل، سوف تكتب الروايةُ نفسَها، وهذا هو كتاب "شيء من البحر فينا"
لا أريد أن أكون متحاملا. فالنصّ على قدر من الفصاحة، وحسن البيان. وشخصية مناف على بساطة بنائها، تحيل بخجل إلى أسئلة مهمّة حول طبقة المعارضة التي خسرت رهانها الكبير بعد الثورة. ولكنّ الرواية تعاني في أساسها من هذا البناء "المسلسلاتي" المهلهل، ومن الرؤية السطحية للواقع الاجتماعي الذي لا تعرفه وتحاول وصفه من الخارج.
من طرائف هذا النصّ أنه ينتقد على لسان "ليتيسيا" التعامل العنصريّ من دول جنوب الصحراء، من خلال تسمية "الإفريقي" على كلّ أهل هذه البلاد، دون تفريق بينهم. ولكن ظلّ النصُّ مصرّا إلى آخر البحر، على وصف ليتيسيا "بالإفريقية"، حتى عندما رقصت، وصفتها بالرقصة الإفريقية! فهل كانت رقصة الفزّاني مثلا؟
ثم تلك الصورة النبويّة لشكري بلعيد، السياسيُّ الوحيدُ، بلغة هذا النص، الذي تفهم مريم المواطنة التونسية الطيّبة بالفطرة المعتدلة غير المثقفة، خطابَه. كيف حصل في الانتخابات على ثلاثة مقاعد فحسب إذا؟ ...more
يجذبني الفضول بسرعة قياسيّة إلى أي مشروع كتابةٍ تونسيّةٍ في الخيالِ العلميِّ، ولا أستثني منها إلا المؤلّفات اللاحقة لمن سبق أن قرأتُ لهم ما لم أستسغه.يجذبني الفضول بسرعة قياسيّة إلى أي مشروع كتابةٍ تونسيّةٍ في الخيالِ العلميِّ، ولا أستثني منها إلا المؤلّفات اللاحقة لمن سبق أن قرأتُ لهم ما لم أستسغه. ومشروع بلقيس سلامة ليس وهما بل هو واعدٌ في بداياتِه. فلغتُه سلسةٌ بسيطةٌ وثريّةٌ في آنٍ، وتشي بقلمٍ يشتغل كثيرا على اللسانِ وألفاظِه وتخريجاتِه. فلا تنهل بلقيس سلامة من موروثِ المجازِ فحسب بل تبدع منه صورا أكثرُها موفّقٌ وجميلٌ.
وإذا كانت اللغة مبتدأ الكتابة، فإنّ الفكرةَ منتهاها، وأفكارُ "المشروع" ليست طريفةً كلُّها. وفي قصص النصف الثاني منه تتسم ببعض الفتورِ والتسرّع. ولعلّ الجامع بين الحكايات العشر، هيمنة المؤامرة، كتصوّر للواقعِ أو كشعورٍ حيالَه في زمنِ التطّور التقنيِّ وسرعتِه الّتي كادت تعادله بالسحر. لذلك نجد السّحر حاضرا بقدر لافتٍ في القصص المقترحة (أكاديمية دادة خديجة، شيء من السحر على الساحر). أما في بقية القصص، فنجدُ مفاهيم (لا "كونسبت" كما ذكر في إحدى القصص) علميّةً ضبابية الملامحِ، مفتقرة لفهم عميق يتيح الذهاب بالخيال بعيدا دون أن يصبح شيئا عجائبيّا لاعقليا. فكرة الهولوغرام في قصة مشروع وهم تخلق شيئا رقميا افتراضيا وفي نفس الوقت متفاعلا مع الواقع، وفي هذا شطط حيال مفهوم "الرقمي" ومفهوم الواقع الملموس. ويتكرّر الأمر بشكل ما في قصّة رجب تحت المقصلة، حيث تنقلنا الكاتبة إلى عالم الكمبيوتر الذريّ، مفترضة أنه قادرٌ على محاكاة كونٍ بأكمله. المشكلة هنا، أن محاكاة الكون باستعمال الذرات بحيث تكون مطابقة للواقع، تحتاج إلى عدد مماثل من الذرات، وهذا مستحيل منطقيا حتى في عام 2700. أما في عالمنا، فمازلنا عاجزين عن محاكاة ذرات زهرة واحدة. مع ذلك، كانت فكرة هذه القصة جيدة خصوصا لو قدّمت مفهوم كمبيوتر الكمّ بشكل أكثر استفاضة من فقرة منفعلة. ولو تجاوزت أيضا مسألة "لعبة الفيديو" إلى الاكتفاء بفعل المحاكاة. فلا يوجد لاعبون هنا، ولا توجد إشارة إلى من يحرّك رجب أو غيره. وفي قصص أخرى مثل قصة "مصعد على قارعة الطريق"، يتضاءل مقدار العلم إلى حدّ كبير لصالح العجائبيِّ، وتصبح فكرة العوالم الموازية شديدة التصنّع ومسقطة فقط من أجل الإبقاء على طابع الخيال العلميِّ الذي يدّعيه الكتاب (ولا يعني الادّعاءُ الكذب) في أغلب هذه القصص، لا نشهد تأمّلا في المفهوم العلميِّ نفسه بقدرما نشهد تعبيرةً عن الخوفِ إزاءه. وهو ما يفسر هيمنة المؤامرة في أرجاءِ الكتابِ. أن أعثر عليك يكتشف البطل أنه يعيش محاكاة افتراضية، وفي قصة رجب تحت المقصلة لا يكتشف البطل ذلك، بالأسوأ أنه نفسُه برنامج محاكاة، وفي "المؤامرة" ربما تمنت البطلة أن لا تفيق من برنامج المحاكاة، وفي مشروع و.هـ.م يتضح للبطل أنه ضحية برنامج محاكاة فشل في صنعه أو ربما نجح، وفي كلاندستينو، يكتشف البطل في النهاية أنه لم يعش حلمًا وأن حياته تمّت قرصنتها بالفعل، وفي لاجئون على سطح المريخ، يكتشف البطل أنه فأر تجارب... وحدها القصّةُ الأولى تُبدي وقفة ساخرة من منطق التآمر، ويحدث ذلك حين تؤوّل الفقاعة على أساس دينيٍّ. فعلى عكس العلمِ، يتراءى الدين عند بلقيس سلامة ككنهٍ تمّ هضمُه واستيعابه وتحييده، فكلُّما يفترضه الدين كمعجزة، وكفعلٍ غيبيٍّ ممنطقٍ، يتضح أنه عشوائيٌّ وبلا معنى.
وبين اللغة والفكرة، يفشل الأسلوبُ جزئيا في الحفاظ حتّى النهاية على إيقاعٍ قصصيّ دراميٍّ. والغالب على الظنّ أن القصص لم يفكّر مسبقا في أيٍّ من نهاياتِها، وفي كثير من الأحيانِ تنزلق الأحداث من بين أصابع الكاتبة فتفقد سيطرتها عليها، أو ترهقها الكتابةُ حتّى تضطر إلى التسرع أو الاختزالِ (في مصعد على قارعة الطريق تفسر لنا في فقرتين أهم جزء من القصة دون أن نفهم كيف حصل ذلك). وفي أحيانٍ أخرى نشعر أنها مضطرَّة اضطرارا بفعلِ عقدٍ خفيّ مع الشيطان، أن تخترع التواءة قصصية ولو أقحمت إقحاما دون داع. في بعض القصص تفقد الالتواءة قيمتها لتصبح إجراء روتينيا هو أسوأ جزء فيها، كما حدث في قصة الساحر أو دادة خديجة. وفي قصص أخرى، تشعر بأسف حقيقيّ لجريان الأحداث ذلك المجرى السخيف بعد أن نعيش أحداثا مثيرة، وأخصّ بالذكر قصّة المؤامرة. فهي الأشدُّ طرافةً بلا شكّ، وأجدها بناء عظيما أسيء إنجازُ سقفه. لا أفهم كيف تحول الأمرُ من نصّ مدهش عن الوقت وإيقاع الحياةِ إلى نسخة أخرى من قصص المحاكاة إياها!
وعموما، بدا لي أن القصص الأولى كانت أكثر عناية بكثير من تلك الأخيرة. فهناك نعثر على هلهلة حتّى على مستوى الحبكة، وفي كلاندستينو يتساءل البطل لماذا لم يتمّ إحضاره إلى إيطاليا دون تعقيداتٍ، كأنما يترجم وعي الكاتبة بضعف حبكتها، ومع ذلك، فهي تعجز عن الإجابةِ، فتهرب بنصها إلى حلّ الحلمِ المحبط. أما في مشروع و.ه.م فخبير الكمبيوتر يحاول الضغط على زرّ تطبيقته مفترضا أن من سرق البرنامج لا بدّ أن يتحكم في نسخته بهاتف البطل (أو حسابه)... وحتى على مستوى اللغة، تزداد الأخطاء كثافة في النهاية، وتقل أناقة العبارة والقدرة على الإيجاز، وتتكاثر الجمل الإسمية شديدة التركيب بدل جمل فعلية بسيطة. ولئن كنتُ قد أشرت إلى ثراء لغة النص وإبداعه على مستوى الوصف والمجاز، فإنني مندهش للكسل الذي أبدته دار النشر في تصحيح الرقن والأخطاء الناجمة عن السهو. فلا فرق بين النفاذ والنفاد هنا. والهمزة المتوسطة بعد الف المدّ تكتب دائما على النبرة، والهمزة المتطرفة بعد كسر تكتب على الألف، و"ما" السؤال، تصبح بلا ألف قبل الألف واللام: مالذي، مالمانع... وعلامة المدّ في الألف تصبح دائما علامة ألف الوصل. ٱهكذا...
وعموما في اعتقادي أن الكتاب افتقر فقط لعملٍ على مستوى الحبكة القصصية والإنهاء ليكون عملا أدبيا متميّزا، والعمل الإضافيُّ أبسط ما يمكنُ للكاتب تحقيقه. ...more
في لقائي الأوّل بكتابات توفيق العلوي، أستعيد متعة اكتشاف الطرافة في الأدب التونسيِّ، وهذا النصُّ طريفٌ في جنسِه وفي انتظامِه وفي محتواه. فأمّا الجنسُ ففي لقائي الأوّل بكتابات توفيق العلوي، أستعيد متعة اكتشاف الطرافة في الأدب التونسيِّ، وهذا النصُّ طريفٌ في جنسِه وفي انتظامِه وفي محتواه. فأمّا الجنسُ فلا هو بالروايةِ مثلما نعرفُها، إذ تتدفّق أحداثه مثل السيول المضطربة تتداخل أحيانا لتداخل الشخصيات، وتتشتّت في أكثر الأحيانِ، وينبثق بعضها من بعضٍ وينتهي قبل النهاية العامّة. ولا هو بالمجموعة القصصية فلا فصلَ لكلِّ فصلٍ من الكتابِ، ولا تقومُ كلُّ حكايةٍ إل�� بغيرها من الحكاياتِ، وليس فيها من عناصر القصّة القصيرةِ من وحدة الحدثِ والتكثيفِ وغير ذلك شيء. ولا هو بالمذكّراتِ وإن حرص الكاتبُ كلَّ الحرصِ على تأريخ الأحداث بالسنةِ واليومِ، ولم يتردّد في ذكر أسماء الأعلامِ من مؤسسيْ مصنع الإسمنت بجبل الجلود في الأربعينات، إلى الشهيد شكري بلعيد ابن المدينة. إذ لا تقوم بنيتُه على تأريخ متعاقب للأحداثِ، ولا تتمحوَرُ حول شخصِ الرّاوي الذي يذوبُ في أكثر الأحيانِ ليترك المساحة لأبطالِ حكايتِه وهم يجوبونَ فضاءً ملتبسا بين ذاكرتِه وخيالِه. وأما انتظامُه، فلا هو بالخطّيِّ الذي يبدأ من بدايةِ الأشياءِ وينتهي بنهايتِها، ولا هو يكتفي في وصفته اللاخطّيّةِ بالاسترجاعِ. بل إنّ أهمّ مقوّمات هذا النصِّ، هو تداخلُ حكاياتِه في نوعٍ من القصة داخل القصّةِ كما أبدع فيها الأدب العربيّ القديم. نتوقف مع إحدى شخصيات الحكايةِ، لترويَ لنا قصّة أخرى تماما، حتى نكاد ننسى الحكاية الأولى. وربما لا تنهيها، فتظلَّ معلَّقة حتى نعثُر على بقيّتها عند شخصيّة أخرى في حكاية أخرى. وهذا ممّا يصعب العثور عليه في أعمالٍ اشتهرت بتداخل حكيها مثل ألف ليلة وليلة. ولكنّ العلوي يفعل ذلك بمزاج جاحظيٍّ أقرب إلى الشارع والعامّة والواقعِ منه إلى الأسطورةِ والدّراما. والمؤكّد أن لا التباس عند القرّاءِ جميعا من تفرّد جبل الجلود نفسها بدور البطولةِ في كلّ هذا الحكيِ. وما هذا التنوّع في الأشخاصِ والأزمنة والأحداثِ إلاّ تأكيد على وجود ثابتٍ واحدٍ حاول الكاتبُ عبر جملةِ المتغيِّراتِ تقصّي ملامحهِ. جبل الجلود، نيران جاشي، حكايـ(ـا)ت المكانِ بل صورتُه الفوتوغرافيّةُ الصّاخبةُ في ذاكرةِ أحد مريديهِ وهو بطاقةُ حبٍّ جميلةٍ، لا تخفي فصاحةُ كاتبِها تأثّره ولا اندفاعه الصّادقَ في تعابيرِه. يحاولُ عبر ذاكرة المدينة وهو جزءٌ منها، أن يجد إجابةً عن ذلك الذي حدث شتاء سنة 2013 فأقض مضجعها. فعرّج على الاحتلالِ واستغلالِ الثروة الطبيعيةِ، وكفاح العمّالِ، وحركة النزوحِ التي شكّلت وجهها الأوّل، وتوقف طويلا عند الثمانيناتِ التي عاشها بكلّ عنفوانِ شبابِه، فنقل مظاهر تهميشها، وألوان مآسيها، ثمّ قفز إلى ما بعد الثورة ليربط كلّ ذلك بواقع الآنِ. يشير توفيق العلوي دون مواربةٍ إلى الفقر والجهل والتطرّفِ كأسبابٍ أساسيّة للمأساةِ، ولكنّه وإن أجادَ الوصفَ، خاب في التحليلِ والغوصِ أعمق في المشهدِ، ولعلّه خاف الغرقَ مثلما حدث لأبطالِهِ، وإني لأتفهّمُ ذلك، لأنّ أرض فهمِ هذا الواقعِ المعقدة زلقة، غدّارةٌ. فاكتفى بصورٍ أطنب في كاريكاتوريّتها، لأبي سنوار وأصحابِه، وجعلهم دون غيرهم من الشخصياتِ، بلا ملامح إنسانية حقيقيّةٍ، كأنه يأنفُ أن يقترب منهم، وأن يفهمَ قصة تشكّلهم. إنها القصة التي تتكرّر دائما: كان سكّيرا منحرفا، وتحوّل إلى التطرّف الدينيّ في جملة من فعلَ آنذاك. شرّيرٌ ليس إلا. ولم يشذّ عن هؤلاءِ إلا أم جبل إحدى أهمّ شخصيات النصِّ وأجملها، لما في محنتها من فرادةٍ جذبت فضول كاتب النصّ قبل فضول قارئه.
والنصُّ على ما فيه من حكاياتٍ مدهشةٍ، يثقل أحيانا على القارئِ باستطراداتٍ تطولُ وتقصرُ ومقاطع ليس فيها طرافةٌ ولا تقدّم بالأحداثِ (فالأحداثُ كما قلنا، متفرّقةٌ بوهيميّةٌ لا نكادُ نعرفُ ما المهمّ منها وما التافه) ويطولُ لخلوّه من التكثيفِ. وفي نهايتِه يتخذ طابعا دراميّا مبالغا أحيانا يذكّرنا في نهاياتِ قصص عبد العزيز العروي، وقد كان يمكن أن يتفرّق ذلك مثلما تفرّقت بقية أحداثِه. لكنّه بالمجملِ اكتشافٌ جميلٌ وحريٌّ بالاطّلاعِ، فهو وإن كان قصّة جبل الجلود، قصّةُ أغلب مدن البلادِ أيضا....more
تنقلنا تغريبة القافر إلى عالم طريفٍ لا يعرفه أكثرنا، وفي ذلك مكسب للقارئ كبير. لا نتعرّف على قرى عُمان النائية فحسب، بل نستكشف باطنها المائيِّ، ونسائلتنقلنا تغريبة القافر إلى عالم طريفٍ لا يعرفه أكثرنا، وفي ذلك مكسب للقارئ كبير. لا نتعرّف على قرى عُمان النائية فحسب، بل نستكشف باطنها المائيِّ، ونسائل الأرض نفسها، عبر مهنة بطلِ الرواية، القافر، الباحث عن الماءِ في أرجائها. ومن أجل ذلك، يستعمل الكاتب زهران القاسمي معجما فلاحيا محليّا يعسر فهمه على القارئ العربيّ، وإذا كان الفلجُ لغةً هو النهر الصغير، ففي لغة العمانين، يغدو مصطلحا لبناءٍ مائيٍّ معقد، فيه خواتمُ وأسقف، ويصعب تبين معمارِه. ولا توفق الرواية كثيرا في شرحه رغم لغة الكاتب البسيطةِ بساطة الرواية نفسها. ولعلّ أجمل ما في حبكتها، ذلك الاستطراد القصصيّ الذي ينبع من الموروث الأدبي العربيِّ ويتأصّل فيه. وكأنما نحن في عالم ألف ليلة وليلة، يتوقف مسار قصة القافر قليلا، ليعرّج على قصّة مربيته كاذية، وإذ يمرّ على شخصية الوعري، يمضي فيها دون تردّد، خالقا ما يشبه القصة داخل القصة داخل القصة... ولا يتوقف التأصيل عند التشظي القصصيّ بل يذهب إلى استعمال الأسطورة كمادّة أساسيّةٍ، فتحضر أحاديث الجنّ، ويعبق الفضاءُ بأحداثٍ تتأرجح بين العجائبيّ والواقعيّ. قراءةٌ مسليّةٌ جميلةٌ وتمنح قدرا من الدهشة. وهي أيضا بسيطةٌ وجودية ولكن ليس فيها ثقل الروايات الوجودية الكبيرة. تذكرني قليلا بمسرحية السدّ للتونسي محمود المسعدي. بطاقة معايدة عمانية أنيقةٌ وإنه، على استحساني لها، من المؤسف أن تتوج بالبوكر، لأن هذا يعني أن العرب لم تكتب في هذا العام، ربما، أجمل منها. ...more
فاجأني جمال الرواية الثانية بالعربية لسامي المقدم. فمنذ البداية كنت أتوقع نفسي أمام أحجية بوليسية مسلية على طريقة ثلاثية قرطاج، ولكنني وجدتني أمام متافاجأني جمال الرواية الثانية بالعربية لسامي المقدم. فمنذ البداية كنت أتوقع نفسي أمام أحجية بوليسية مسلية على طريقة ثلاثية قرطاج، ولكنني وجدتني أمام متاهة نفسية كأحلام دافيد لينش المربكة. الكثير من المواقف الإباحية المدهشة والمتنوعة، والكثير من المشاهد المخيفة، وصور الطفولة، ومخاوف الأزواج الشباب... سيناريو الرواية ضعيف نسبيا ونهايته أشبه بنوع من الهروب، ولكن ذلك لا يؤثر على متعة القراءة كثيرا. يقدم الكاتب أيضا نوعا من الشرح للمشهد الإباحيّ ووجدت في ذلك نوعا من الابتذال، لأن من حق القارئ أيضا أن يجد/يصنع المعنى لوحده. كان شرح كل ذلك وليس بعضه فحسب، أشبه بالتبرير المحبط. ولكن بعيدا عن ذلك، فسامي المقدم متميّز في تفكيك حياتِه وعوالمه وإعادة عجن عناصرها في كل مرة بطريقة مختلفة. وشتان بين "ذات مرتين الأمير الصغير" وبين "داموس الكريطة" في الصور والأسلوب....more
قرأتها منذ زمن بعيد، و لا تزال مشاهد المطاردة، و الاختفاء في المقبرة حاضرة في ذهني. سعيد مهران، و سلسلة الأسماء الرمزية جدا التي يحب محفوظ استعمالها، وقرأتها منذ زمن بعيد، و لا تزال مشاهد المطاردة، و الاختفاء في المقبرة حاضرة في ذهني. سعيد مهران، و سلسلة الأسماء الرمزية جدا التي يحب محفوظ استعمالها، و علاقات الصداقة و الحب و الخيانة المتشابكة.. إنه عالم نجيب محفوظ! ...more
أحبطني الملفّ الأصفر. جملةٌ سرديّة بديعة الألوان باهتة المعاني. ولو خرجت من محبرة كاتب تونسيّ آخر لاستحسنتها ونوّهت بها طويلا. ولكن، تفعل بنا الأسماء فأحبطني الملفّ الأصفر. جملةٌ سرديّة بديعة الألوان باهتة المعاني. ولو خرجت من محبرة كاتب تونسيّ آخر لاستحسنتها ونوّهت بها طويلا. ولكن، تفعل بنا الأسماء فعلها، وتعدنا الموهبة الأصيلة بالدهشة الدائمة، فلا نقبل منها انتكاسا. والمضحك أن الملف الأصفر ليس من الانتكاس في شيء فقد سبق نازلة دار الأكابر كتابة وإن تلاه نشرا. وهو بذلك تأكيد على تطور الموهبة ووعد بما هو أجمل. بل إن الملف الأصفر يتفوق على النازلة في بعض الجوانب، إذ نجد في لغتِه اندفاعا بريئا نقيّا لم يكبّل لغته التزويق والتدقيقُ والتحليل والتمحيص. ثم إنّ الكاتبة هنا أجادت اختيار راويها فلاءمت بين شخصيّته كأستاذ لغة عربية، وبين خطابِه لغته الشاعرية. لكن الملف الأصفر على حسن لغته، لم ينجح في الخروج بقارئه من دوامة الالتواءة السردية الّتي كان يعدّ لها، فوقع في هوس إثباتِها وتعديد التفاصيل الهامشية التي تلمح فيها الحقيقة بوجودها. وفي خضمّ تفاعل أميرة غنيم مع محنة بطلها، نسيت في الثلث الأخير من النصّ الجزء الأهم والأجمل الّذي شكّلته خلال الثلث الأوّل: علاقة الحبّ القاصمةُ بين البطلِ ومعذبته. فاندفعت نحو قصة الجنون غير ذات البال، وتركت قصة الحبّ الأشد جنونا. فهي أحيانا ثلاثية، وأحيانا رباعية، وأحيانا مازوخية، وأحيانا سادية، وأحيانا ماديّة، وأحيانا تراجيدية الخ. ومنذ أن كنا نمني النفس بشخصية نسائية لم يكتب مثلها العرب قطّ، حدث اغتيال هاجر، ووجد غسان نفسه فوق ركح مسرح وهميٍّ لم تنجح الكاتبة في إكسابه أي بعد، فظل يحاول عبثا استعارة نفسه صورةً عن الثورة، فلم يوفق. قتلت معذبته سنوات الجمر، في حادث "الثورة"، فضلّ عقلُه. فهل ضل التونسيون بسبب النهاية المأساوية لجلادهم؟ وهل كانت نهاية الجلادين مأساوية حقا؟...more