"أريد لقرائي أن يستطعموا هذه العاطفة نفسها حين يقرأون كتبي. أريد أن أفتح نافذة في أرواحهم، يدخل منها هواء منعش. هذا ما يخطر لي، وما أرجو حدوثه حين أكت "أريد لقرائي أن يستطعموا هذه العاطفة نفسها حين يقرأون كتبي. أريد أن أفتح نافذة في أرواحهم، يدخل منها هواء منعش. هذا ما يخطر لي، وما أرجو حدوثه حين أكتب، تماماً وبكل بساطة".
حين قرأت سيرة هاروكي الرياضية بعنوان: "ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري" وكيفية محافظته على جسده، من خلال رياضة الجري، شعرت بعطش شديد لأن أعرف أكثر عن حياته، خارج ما يطرحه في كتبه من حكايات مجنونة أمتعتنا وجعلته من كتابنا المفضلين، فجاء كتاب "مهنتي هي الرواية" وهو يضم مقالات فيما يُشبه سيرة كتابية عن هاروكي وحياته ومقتطفات من نشأته، وكيف أنه أصبح ذائع الصيت نتيجة مخاطرة كبيرة، حيث أنه في أحد الأيام قرر أن يكون روائياً وهو يشاهد مباراة ما في أحد ملاعب البيسبول، إلهام ظهر له فجأة، وتمسك به، بل وتجرأ إلى أكثر من ذلك، أن يهجر عمله بالكامل في مقابل أن يكون روائياً في المقام الأول، فتشعر ومنذ البداية أن حياة هاروكي مثل الرواية، فمثل هذه القرارات يحتاج إلى قدر كبير من الخيال والجرأة لتتخذه، وبسبب هذا القرار، أصبح لدينا كاتب بحجم "هاروكي موراكامي".
تتنوع فصول الكتاب ولا تتخذ ترتيباً معيناً لفترات حياته، بل تتأرجح كالبندول بين الماضي البعيد والماضي القريب، في إطار عنوان الفصل، يحكي هاروكي عن بدايات حياته، علاقته السيئة مع المدرسة والدراسة، أسباب قلة ظهوره الإعلامية وفي المحافل الأدبية خاصة، وبشكل عام، علاقته بالجوائز الأدبية ونظرته وفلسفته لها، كيف يكتب رواياته من وأين يستقي شخصياته؟ وكيف يكون الكاتب أصيلاً في محتوى روايته؟ وما الذي ينبغي للكاتب أصلاً أن يكتب عنه؟ وعلاقة الرياضة والجري بالكتابة؟ وبعض المحطات الهامة في حياته، وكيف تحول من كاتب محلي في اليابان إلى كاتب عالمي ينتظر عديد القراء حول العالم كتاباته بشغف كبير؟ هذه أسئلة كثيرة يصحبك موراكامي في رحلة إلى ماضي حياته ليجيب عنها بطريقة ممتعة كالعادة فلا تشعر بأن الكتاب ما يُشبه سيرة ذاتية أو مقالات، فحياة هاروكي نفسها أشبه بالخيال!
وكيف لا؟ فعندما تنظر إلى تفاصيل حياته وطريقة كتابته للرواية تشعر بأن حول هذا الرجل قدراً هائلاً من السحر الممتع، فمثلاً يذكر أنه في أحدى قصصه القصيرة، تمردت شخصية ما فتحولت من قصة قصيرة إلى رواية بسبب جملة واحدة، وهذه دلالة كبيرة على أي حد يتماهى "هاروكي موراكامي" مع شخصيات روايته، فيغوص في كل حكاية وكأنه هو نفسه داخلها وليس كاتبها.
ختاماً.. قرأت كتابين لهاروكي يتحدث فيهم عن حياته وسيرته الرياضية والروائية ولا زلت أشعر بالعطش، أريد أن أعرف أكثر، وأريد أن أكون معه بداخل تفاصيل حياته، ما يتذكره عن طفولته ومراهقته وشبابه، وحتى كبر سنه وطريقة تعامله وعيشه منذ أصبح كاتباً معروفاً، ولا أعلم هل سيتحقق كل ذلك في كتاب آخر، أم إنها ستظل أحلام مستحيلة عصية علي، فأتركها للخيال، ليجيب على تلك الأسئلة ويُكمل الفراغات الغامضة عن واحد من كتابي المفضلين: هاروكي موراكامي.
"ولكني ادركت شيئاً فشيئاً، إذ أنا أتقدم بالعمر، أن هذا الألم والوجع جزء ضروري من الحياة. ولو فكرت في ذلك وجدت أن السبب الدقيق وراء قدرة الناس على خلق "ولكني ادركت شيئاً فشيئاً، إذ أنا أتقدم بالعمر، أن هذا الألم والوجع جزء ضروري من الحياة. ولو فكرت في ذلك وجدت أن السبب الدقيق وراء قدرة الناس على خلق ذواتهم المستقلة يعود إلى اختلافهم عن بعضهم بعضاً."
عندما تحب كاتب ومؤلفاته، تتمنى أن تعرف شيئاً عن الأسرار والغموض التي تلف بكتبه، تُحاول أن تستكشف حياته، بداياته وطريقة تفكيره بعيداً عن رواياته وكتبه، وهذا ما قد نجد منه جزءاً يسيراً في هذه المذكرات بعنوان: "ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري"، التي نجد فيها علاقة "هاروكي موراكامي" بالجري، وتأثيره الهائل على حياته، بل وعلى إبداعه الأدبي أيضاً. جميع المقربين مني يعرفون مدى تقديري وحبي لهاروكي موراكامي وكتاباته، هناك سحراً مختلفاً بكل أعماله على اختلافها بين الواقعي والخيالي، سحراً جذبني منذ أول مرة قرأت روايته "ما بعد الظلام" ووقتها لم أكن أعرف عن كاتبها شيئاً من قبل، ووجدتني مسحوراً بكلماته، وأتذكر حينها أنني كنت كمن وجد قبواً منسياً مليئاً بالسحر والخيال، وسألت نفسي: أين كان مختبئاً عني هذا الكاتب؟ طبعاً كان هذا منذ 8 سنوات، ولم تكن شعبية هاروكي كما نراها الآن، أو على الأقل حولي كان هذا هو الوضع، وتوالت القراءات لهاروكي ومع كل عمل ازادا تعلقاً بكتاباته، وفي نفس الوقت لا أنكب عليها أقرأها توالياً خوفاً من أن تنتهي، أحرص على إقتناء كل أعماله، لكني أتمهل في قراءتها، ولما صدرت سيرته الروائية منذ أيام قليلة، وجدت أن هذه فرصة مناسبة لأقرأ جزءاً من سيرته، وإن كانت تتحدث عن الجري والرياضة، وبها القليل من بداياته، وطريقه إلى أن يُصبح روائياً، ومع توالي الصفحات، أكتشف أن هاروكي ليس كاتباً بارعاً فقط، بل هو شخص في قمة اللطافة، تشعر بدفء من حكاياته، حتى لو كانت تتعلق بالجري وصعوباته، وترى بأن هناك إلهاماً لم يحاول هاروكي أن يُضيفه، ولكنه موجوداً، يُمكنك أن تلاحظه بكل تأكيد.
"قد يكون في الأمر شيء من السخافة أن يقول هذا امرؤ في عمري، ولكني أريد أن أحرص على كتابة الحقائق بوضوح؛ أنا شخص يُحب أن يكون وحده، وبعبارة أكثر تفصيلاً؛ أنا شخص لا أجد الوحدة أمراً مؤلماً. لقد اكتشفت أن قضائي ساعة أو اثنتين في الجري وحيداً كل يوم، ثم الجلوس وحيداً إلى مكتبي لأربع ساعات أو خمس، ليس بالأمر الصعب ولا هو بالممل. لقد كانت لدي هذه النزعة منذ صغري، إذ -أن تُرك الخيار لي- كنت أفضل كثيراً قراءة الكتب أو التركيز في الاستماع إلى الموسيقى وحدي على صحبة أحد آخر. يُمكنني دوماً التفكير بأمور أقوم بها وحدي."
وهكذا، من خلال المذكرات نقترب بشكل لا بأس به من "هاروكي موراكامي"، نتفاعل مع حكايته ونتابع نشأته وبداياته بشغف ولمعة أعين كالأطفال، ورغم أنه لم يُحاول الإدعاء بأن هذا كتاب سيلهمك بالتخلص من العادات السيئة وبدء القيام بالرياضة في أقرب وقت، لكنك ستشعر بذلك تماماً، ستشعر أنك تريد أن تقرأ هذا الكتاب وأنت تجري وتجري وتجري، ستحاول إفساح المجال للجري ليدخل ضمن مهام يومك العديدة والمُثقلة بأعباء مُعقدة، ولكنك ستشعر بأنك تريد أن تجري، حتى تصير أكثر خفة، حرفياً ومجازياً.
ختاماً.. عند نهاية صفحات الكتاب، ذكر موراكامي عام مولده "1949" وبحسبة بسيطة تملكني الفزع والخوف، لعلمي بسنة الحياة وطبيعية تراتيبها ومراحلها، فهل يُدرك موراكامي أن هناك قارئاً لأعماله شعر بغصة في قلبه خوفاً عليه؟ وهو الذي لم يراه قط، ولا يعرف حتى أنه على قيد الحياة؟ هذا سحر القراءة، التي تخلق علاقات متشابكة ومُعقدة يصعب تفسيرها، وأدام الله جريك يا موراكامي، ولنجري معاً، كلاً في نطاق جغرافيته المحدودة. ...more
"لا تقلقي فإن اليُتم ليس أمراً حزيناً بهذا المقدار. فالجميع مُعرضون لليُتم بأهون السُبل."
التجربة الثانية لي مع الكاتبة "يوكو أوغاوا" بعد ديستوبيا "شرط "لا تقلقي فإن اليُتم ليس أمراً حزيناً بهذا المقدار. فالجميع مُعرضون لليُتم بأهون السُبل."
التجربة الثانية لي مع الكاتبة "يوكو أوغاوا" بعد ديستوبيا "شرطة الذاكرة" والفلسفة المترتبة على ذلك، تأتي "غرفة مثالية لرجل مريض" لتكون بمثابة رثاء طويل من أخت لأخيها الذي لولا اقتراب موته بسبب مشاكل صحية لظل كما قالت، مجرد أخاً أصغر. فالأخت التي عاشت معاناة المرض مع والدتها في الماضي، وهربت منها إلى زواج يبدو أنه ليس في أفضل أحواله، تواجه الماضي في الحاضر عن طريق مرض أخيها الأصغر، وكأنها تذكرة بحتمية الموت، أنه حولنا في كل مكان، ويُغلف كل شيء، ومهما نسيناه أو تجاهلناه عن عمد، فأنه هناك مُحلق بالأفق الأعلى ينتظرنا جميعاً.
"عندما يموت شخص ما، يترتب على الأحياء أن يعيشوا تحت وطأة المشاعر المختلفة من الندم والحسرة حياله."
الرواية ثقيلة الوطأة على النفس، وعلى الأخص لمن مر بتجربة فقد لأقاربه أو أحبابه، فهي تصف الموت بشفافية ودون مواراة أو تزييف، الموت قبيح، هذه حقيقة لا ريب فيها، ولكن الموت قبيح على الأحياء الذين فقدوا، فمن مات قد مات، فقط الأحياء من يعيشون الحزن حوله. قد ترى أن مشاعر الأخت شديدة البرودة، وناهيك عن أن الرواية يابانية ويُمكنك أن تعرف ذلك من بضعة سطور من الرواية، ولكن برودة المشاعر تلك تُخيفني. القدرة على كبت المشاعر وعدم الانفجار بالبكاء أو الصراخ بسبب الألم والحزن، والاكتفاء بنظرات شاردة باردة، والانعزال بداخل نفسك، ذلك ما يُخيفني، تلك القدرة على إحتواء الألم بداخل جسد، تعد وتشي بإنفجار قد يكون مدوياً، وليس شرطاً أن يكون الانفجار خارجياً، بل يُمكن أن يكون بداخلك، فتتولد قدرة مهولة على تدمير الذات، والشعور التام بالخواء والتبلد.
ختاماً.. رواية على قصرها ولكنها غزيرة بالأفكار المُعقدة والفلسفية، تتناول موضوع الموت برقة لا تُشبهه، وتُشجع للقراءة ليوكو أوغاوا مرات أخرى. لا أستطيع أن أرشحها تماماً، لقدرتها على إدماء قلبك. ...more
❞أيُّ شيءٍ أقسى على المرء من الإقدام على الانتحار لكي ترتاح نفسه؟❝
تتناول رواية "الجنة" للكاتبة اليابانية "مييكو كاواكامي" التنمر وأبعاده من زاوية مختل ❞أيُّ شيءٍ أقسى على المرء من الإقدام على الانتحار لكي ترتاح نفسه؟❝
تتناول رواية "الجنة" للكاتبة اليابانية "مييكو كاواكامي" التنمر وأبعاده من زاوية مختلفة، لم أرى مثلها من قبل، رواية مؤلمة، تبدأ أحداثها بداخل أحد المدارس مع طالب لم نعرف اسمه ولكننا نعرف كل شيء عن حياته، عمره أربعة عشر عاماً، يواجه أصنافاً من التنمر تصل حد الإيذاء النفسي، ويصل ذلك الإيذاء حد الاعتداء الجسدي، لكونه "أحول" وضعيف البنية، فيلاقي عذاباً مريراً بدون أن يرتكب أي ذنب، فكيف لرواية تعنون نفسها بالجنة أن تجعلك تمر بكل ذلك؟ أي جنة هذه؟
تتغير حياة الطالب بعدما وجد رسالة له من زميلته في الفصل، فتصادقا وكانت سبباً لجعله يبلع كل تلك الأمور المؤذية التي يواجهها، يبدو أن الحياة سيكون من المُمكن أن نتقبلها ونعيشها، ولكن، من قال أن الحياة بهذه السهولة؟ فتزيد صداقتهم من تعقيد الأمور، ويصل الإيذاء والتنمر إلى حد يجعل قراءة الأحداث عسيرة، ويجعلك تتوقف ألماً، فكأن حدود الرواية تعدت صفحاتها، ونالك من أذاها الكثير. وعلى الرغم من نشأتي في مدرسة حكومية أصيلة، من تلك النوع الذي يُسمح فيه بالتنمر بأنواعه، تنمر يُثير دهشتك واشمئزازك من وجوده، ويتعدى التنمر حدود الطلاب ليُشارك فيه المدرسين وأخرون، فقد تفاجئت بمستوى التنمر والإيذاء النفسي الذي مر به الطالب، لأنه يحمل قدر من الإهانة يجعلك تصرخ، ولكن من أجله.
وفي الوقت الذي شعرت فيه بأن الرواية تتجه إلى شكل نمطي عادي، جاءت أحدى الحوارات بين الطالب وأحد المتنمرين عليه، ليزيد وزن الرواية، ويجعلك تنظر لها من منظور مختلف، فلسفة صبغت الأحداث، ونفهم لماذا يحدث ما يحدث؟ وطريقة الكاتبة في طرح أفكارها التي تستحق وقفة للتأمل فيها، بالتزامن مع كتابتي لهذه السطور، حدثت مأساة أخرى في فلسطين، لتتردد كلمات المتنمر في ذهني، ما قاله عن أنهم لا يتنمروا عليه بسبب ضعفه وحوله، ولكن لكونه وجد هنا، لكونه بلا حول ولا قوة، ولا يُمكن أن يساعده أحداً مهما استغاث، منظور القوة والضعف، وكيف أن كثرتهم غلبته، وحتى لو اشتكى، فلن ينقذه ذلك أبداً، بل قد يجعل الضرر أكبر، ولو حاول أن يقاوم ويرد الضربة بأخرى، ستكون العواقب أكثر، وببساطة شرح هذه الفلسفة، تُخبرنا الكاتبة بأن العالم ليس بعادل، عالم لا يعترف إلا بالقوة، حتى لو كانت في صف الظلم، الإنسانية مجرد كلمة نتغني بها لكنها أقرب لخرافة أسطورية، نعمي أعيننا عن الحقيقة، بل ونقف في صف الظلم نتغني به، ولا نستطيع المقاومة حتى بكلمة أو رفع علم! هذا هو العالم، وعلينا تقبل تلك الحقيقة.
ختاماً.. رواية مؤلمة، تناولت التنمر من زاوية لم أرى مثلها من قبل، وأكرر، رواية مؤلمة مؤلمة مؤلمة، بعض المشاهد قد تجعلك تمر بصدمات عديدة. ولولا نشأتي في المدارس الحكومية ومعرفتي بوجود هذا النوع من التنمر بأشكاله المختلفة وحدته غير المنطقية لكان وقعها علي أشد هولاً. لا أستطيع أن أنصح بها تماماً، وليس لأنها سيئة، بل لأنها مؤلمة، فأدخل هذه التجربة على ضمانتك.
"المهزوم لا يستطيع الشكوى ولو كان على حق... الحرب تترك آثاراً مُحزنة إلى الأبد."
المعاناة مُستمرة، ولكن كما يوحي العنوان لا رفاهية هنا لليأس، ونرى بوادر "المهزوم لا يستطيع الشكوى ولو كان على حق... الحرب تترك آثاراً مُحزنة إلى الأبد."
المعاناة مُستمرة، ولكن كما يوحي العنوان لا رفاهية هنا لليأس، ونرى بوادر الاجتهاد على المجموعة مع تمهيد لفقدان بعض الشخصيات. ...more
"ما يزال ذلك الشعور ينتابه أحياناً. ذلك الإحساس بأنه يُغادر ذاته. بأنه ينظر إلى ألمه، وكأنه ألم لا يخصه."
في رواية "تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حج "ما يزال ذلك الشعور ينتابه أحياناً. ذلك الإحساس بأنه يُغادر ذاته. بأنه ينظر إلى ألمه، وكأنه ألم لا يخصه."
في رواية "تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجه" يخرج هاروكي من عباءة الفانتازيا والخيال، ويكتب رواية واقعية، مؤلمة، وحزينة، فكيف ستكون النتيجة؟ فقد عودنا الكاتب الياباني على الجنون المطلق في رواياته، وعلى التدقيق في تفاصيل خيالية لا تخطر على بال أو عقل، ولكنه، يأخذنا في رحلة أخرى واقعية، بطلها "تسوكورو"، رحلة تغوص في أعماق النفس البشرية، وتفضح هشاشتها وضعفها.
حيث يجد "تسوكورو تازاكي" نفسه خارج مجموعة أصدقاءه المقربين، كانت المجموعة عبارة عن خمسة أصدقاء، يدرسون معاً، وتشعر أنهم يكملون بعضهم بشكلاً ما، فجأة، يُطرد من المجموعة بلا أي سوابق معروفة، أو سبب واضح، وتسوكورو لا يسأل لماذا؟ ويُكمل حياته بناءاً على ذلك، حياة مليئة بالخوف من الهجر وأن يبقى وحيداً، حياة يضع فيها مسافة بينه وبين أي شخص حوله، العائلة والأقارب وأصدقاء العمل، وحتى حبيباته، كانت دائماً تلك المسافة موجودة، لم يطأها أحد، ولم يسمح لأحد بأن يقترب منه، فأي حياة تلك التي تعيشها يا تسوكورو؟
"لعل قدري أن أبقى وحيداً. كان الناس يأتون إليه، لكنهم دائماً يرحلون. يأتون، باحثين عن شيء ما، فإما أنهم لا يجدوه، أو لا يروقهم ما يجدونه (أو ربما يصابون بخيبة أمل أو غضب)، فيرحلون. هكذا يختفون من دون إنذار، من دون تفسير، من دون كلمة وداع، مثل فأس صامتة تهوي على الروابط بينه وبينهم، تلك الروابط التي ما يزال الدم يتدفق فيها، مع نبض هادئ."
الرواية وطأت مواضيع نفسية كثيرة كإنعدام الثقة والخوف من الماضي والخوف من المستقبل، فتسوكورو وبسبب أحد الأشخاص الذي قابلهم، الذي حفزه على نبش مقابر الماضي، ومواجهة مجموعة أصدقاء ليعرف لما لفظوه جميعهم؟ دون أي سبب، ودون أي نقاش، فمن الواضح أن الماضي الذي نتناساه، يقف عند ذلك، بل يمتد تأثيره إلى حاضرنا، فنظل نعيش الماضي في الحاضر، وبكل تأكيد، هذا النوع من الحياة لا يُساعد على التقدم إلى الأمام والتفكير في المستقبل بأي شكل، فعاد إلى الماضي ليحل عقده النفسية، فهل كانت النتيجة مرضية؟ خصوصاً مع كشف عدة أسرار خطيرة فعلاً، ولم يكن يعلم بوجودها في الأساس.
"أصبح الماضي سيخاً طويلاً حاداً يطعنه في قلبه. ألم فضي صامت يخترقه، يُحول عموده الفقري إلى عمود ثلج. ظل الألم معه، لا يتزحزح."
فـ"تسوكورو" الذي يشعر بأنه هش وثقته في نفسه معدومة، نتيجة دلائل كثيرة أفضت إلى ذلك منهم معنى اسمه؛ "عديم اللون"، وذلك، ما جعله يمشي مع التيار أياً كان الطريق الذي سيضعه فيه، ولذلك لم يواجه أصدقاءه عندما قرروا قطيعته، وذلك الخيار جعل لحياته شكلاً، ف��و على حد وصفه شعر بأنه تُرك وسط البحر في الليل، فكيف ينجو ويخرج؟ وتلك التجربة هل فادته؟ أم أنها مجرد ندبة ��لى الروح، ستظل موجودة ولا يُمكن التعافي منها، وهل يأتي التعافي من الآخرين أم من داخلنا؟
ختاماً.. قد يصل البعض إلى النهاية منتظراً الخاتمة الشافية الملائمة، التي ستجعل "تسوكورو" دون جراح من جديد، وسأتفهم خيبة الأمل عندما تجد النهاية مفتوحة على احتمالات عديدة، وخصوصاً مع تعالي نبرة الخطابة الغريبة على هاروكي في آخر الفصول، ولكني وجدت في تلك النهاية منطقاً بشكلاً ما، وأن التعافي لا بد أن يأتي من داخلنا، لا من الآخرين، والجميل أيضاً أنه يجعل هاروكي بطله يخرج عن شخصيته فيكون شخصاً جديداً تماماً، ولكنه ما زال كما هو، بهشاشته بضعفه بخوفه، حتى النهاية. لا بد أن أُشيد بجمال الترجمة، وحرية التصرف الذكية التي قام بها المترجم "أحمد حسن الم��يني" طوال الأحداث وبالأخص في الجزء الأول من الرواية، عندما كانت لغة الحوار والتفكير لغة شباب مراهقين، فكان لا بد من بعض الترجمة "الروشة" الملائمة لتلك المرحلة العمرية، وتدرجت الألفاظ والكلمات على حسب الفترة العمرية للشخصيات وذلك واضح وملموس، وذلك لا يدل إلا على أن المترجم قام بعمله على أكمل وجه، وساهم في نقل الرواية بروحها إلى العربية.
"كلما وقفت أمام المرآة أتأمل نفسي، اكتشفت أن ما أراه هو مجرد إنسان فارغ. عدم. أو إنسان من القش."
في الجزء الثاني لرواية "مقتل الكومنداتور" بعنوان: مجاز "كلما وقفت أمام المرآة أتأمل نفسي، اكتشفت أن ما أراه هو مجرد إنسان فارغ. عدم. أو إنسان من القش."
في الجزء الثاني لرواية "مقتل الكومنداتور" بعنوان: مجاز يتحول، يتم الإجابة على العديد من الأسئلة ويتم ملئ "أغلب" الفراغات التي تركها الجزء الأول، تكتمل رحلة بطلنا، -الذي لم يُذكر اسمه- وتكتمل الحكاية، لنفهم ونتواصل مع ما يُريد "هاروكي" إيصاله من روايته، وفي الحقيقة، هناك العديد من الأشياء الذي كان يُريد قولها، ولا أدعي أنني فهمت كل شيء، ولكنني خرجت من الرواية راضياً عنها بكل تأكيد، وراضياً عن فهمي لها، والأهم من كل ذلك –من وجهة نظري- أنني خرجت مُستمتعاً بكل التفاصيل الخاصة بها.
فدون الخوض في التفاصيل الدقيقة التي ستصبح بمثابة حرق للأحداث، وعندما ترى صورة الرواية بأكملها، تنظر إلى جميع الشخصيات بعدما اكتملت حكايتهم، بطلنا الرسام ومنشكي ومارية، ذلك المثلث الأهم في الرواية، والذي عشنا معه حكايات مختلفة وغريبة، بدأت الرواية بشكل واقعي للغاية –بعيداً عن الفصل الأول الذي لن نفهمه إلا بعد وقت طويل في الرواية، ويظل زمن حدوثه مجهولاً ويطرح تساؤلات مهمة- ثم تدرج الخيال، بروية، ليسيطر في الأحداث عند ذروتها بقرب النهاية، يُشكك هاروكي في كل شيء، كل الثوابت، الواقع، والحقيقة، والوقت، يطرح تساؤلات فلسفية حقيقية، عن طريقة تشكيلنا لمفاهيم وثوابت من العدم، بل ونصر على الالتزام بها وعدم الحياد عنها.
أيضاً، مفهوم الفن في الرواية، فالبطل رسام، ولكن الرسم الفني لا يؤتي بأموال تسد رمق العائلة، فيضطر إلى رسم بورتريهات شخصية حتى أصبح يقوم بذلك بشكل برمجي، فكأنها رسالة أنه وحتى الفن لو أضفنا له العادة والروتين والمال، لأصبح عادياً، رغم شهادة الجميع بأنه رسام موهوب ولديه قدرة هائلة، ولم يكتشف الرسام نفسه إلا عندما ترك رسم البورتريهات واتجه للرسومات التي يجد فيها شغفه، ويكون لديه الدافع دائماً للقيام بها، ولكن، ليست بهذه الطريقة تُدار الأمور.
"ربما كانت كل حياتي حتى الآن خاطئة. غالباً ما أفكر بذلك. ربما أخطأت في طريقتي. ربما كان كل ما فعلته حتى الآن بلا معنى."
يهدم "موراكامي" العديد من الثوابت في العلاقات، من خلال شخصياته، ولو دققت النظر في رحلة كل شخص، ستجده يعيش معاناته الخاصة، يتألم منها في صمت، لا يصرخ ولا يصيح بألمه، فقط يكفيك أن تنظر في عينيه، نظرة طويلة، لتفهم كنه الألم الذي يمر به. في كل روايات هاروكي ستجد الشخصيات عاملاً مُميزاً للغاية، وهنا ليس باستثناء، فالشخصيات لا يُمكنك أن تتوقعها على الاطلاق، ولكن في نفس الوقت، يرسل هاروكي رسالة إلينا، ألا نحكم على أي شخصية، فكلاً منهم يعيش حياته، وتلك الحياة مبنية على قرارات وخطوات، ولن يُصبح مسئولاً عنها، إلا الشخصيات وحدها، فأن تُهاجم شخصية وتقول أن ما قام به خطأ أو ما شابه، ستجده غير مُرحباً به في هذه الرواية، وأنه يكفي فقط أن تتأمل رحلة الشخصيات وحياتهم، دون الحكم أو التدخل، فما الذي يضمن لك أنك عندما توضع في نفس الظروف ألا تتصرف بنفس المنطق والكيفية؟
ختاماً.. أرى أن هذه الرواية بمثابة دليل حي على أحد الرمزيات بداخل الرواية، فهاروكي يكتب ما يُريد، دون تحفظ، دون منطق، دون خوف من أي شيء، يكتب ما يُمليه عليه عقله ورؤيته، ولذلك تجد رواياته مختلفة تماماً، ورغم شهرته الواسعة، فلا أستطيع أن أصنف رواياته بأنها تجارية! على الاطلاق، فمثلاً "مقتل الكومنداتور" لن يُمكنك أن تُحبها إلا لو كنت محباً لهاروكي في الأساس، وطريقة كتابته، ورمزياته المُلغزة، وحكاياته الساحرة التي لا تنتهي، وخياله الواسع المجنون، فهو فقط من يجعل الفكرة شخص له وجود، والمجاز كائن أسود يلتهم البشر بداخله، فعند هاروكي أن تموت كفكرة أفضل بكثير من أن تعيش كمجاز.
تحمل القراءة لهاروكي موراكامي العديد من السمات، منها على سبيل المثال لا الحصر؛ الجنون المُطلق، العبث المنطقي، ثلاثية الحب والجنس والزواج، الأحلام السر تحمل القراءة لهاروكي موراكامي العديد من السمات، منها على سبيل المثال لا الحصر؛ الجنون المُطلق، العبث المنطقي، ثلاثية الحب والجنس والزواج، الأحلام السريالية، أبطال تائهون في الحياة، أفكار فلسفية شديدة العُمق ومكتوبة بطريقة سلسة كجريان النهر، وبكل تأكيد، لن تستطيع أن تفهم الرواية إلا عندما تُنهيها، وأحياناً لن تفهمها أيضاً حتى بعد النهاية، ولكنك ستخرج وأنت واثق تماماً بأن التجربة تستحق كل حرف قرأته، ومفهوم الكتابة والرواية اختلف تماماً عندما تقرأ للعزيز موراكامي.
عندما تنظر إلى عنوان الجزء الأول من رواية "مقتل الكومنداتور"؛ "فكرة تظهر"، ستُفكر في احتمالات عديدة عن كُنه الفكرة، وماهيتها، ومهما شطحت بخيالك، لن تصل إلى ما وجدناه بداخل الرواية، يُفكر هاروكي بطريقة مختلفة بلا شك، هو هناك دائماً في تلك المنطقة الرمادية، بين الواقع والخيال، بين الحياة والموت، بين اليقظة والنوم، تلك المنطقة التي لا تستطيع لمسها أو تشعر بها إلا بشكل طفيف للغاية، تشعر أنه يعيش فيها، ويصف حكايته من هذا المنظور، يرى ما لا نراه، فيكتبه، هكذا هاروكي ببساطة شديدة السطحية.
الرواية منقسمة إلى جزئين، فمن الصعب الحكم على الجزء الأول من الحكاية، وخصوصاً أن أغلب الأسئلة لم يتم الإجابة عليها، هناك حيرة وضبابية تغلف كل شيء، رغم أن بداية الرواية كانت شديدة الوضوح، ومفهومة تماماً، حتى ظهور أحد الشخصيات الفريدة من نوعها، بشعره الأبيض الذي لا مثيل له، ومن هنا، تبدأ الرحلة الواقعية الخيالية المجنونة، بين حقيقة الواقع وفلسفة الخيال، والكثير من الفن، فبطل الرواية –الذي لم يُذكر اسمه- رسام بورتريهات، والعديد من الفصول والأفكار فُردت لتلك الجزئية، فلم يكن بطل الرواية رساماً لأنه لا بد للبطل أن تكون له مهنة، بل قامت الرواية على كونه رساماً! كل الأحداث والمنحدرات والانعطافات بدأت من ريشته وموهبة تحويل الرسومات إلى أكبر شكل حيوي مُمكن، حتى أصبح الجميع يشهد له ببراعته، رغم تجارية أغلب أعماله.
ختاماً.. رغم الخروج من الرواية، مليء بالحيرة والربكة، لدي تساؤلات هائلة، ولكنني، قدرت الرواية، وأحببتها، وعشت معها بتفاصيلها، وانطلق إلى الجزء الثاني، بحماس، لنفهم، ماذا يُريد أن يقول عزيزنا هاروكي، على الرغم من أنك تعرف أنه أياً كان ما سيقوله، ستحبه، وستستمتع بقراءته. إلى المجاز الذي يتحول. ...more
عاملة متجر البقالة هي كيكو، التي كانت تعيش طفولة غريبة، فلم يفهمها أهلها ولا مُدرسيها، فقررت أن تندمج في المجتمع حتى لو كان ذلك من خلال أن ترتدي العدي عاملة متجر البقالة هي كيكو، التي كانت تعيش طفولة غريبة، فلم يفهمها أهلها ولا مُدرسيها، فقررت أن تندمج في المجتمع حتى لو كان ذلك من خلال أن ترتدي العديد من الأقنعة وتقلد شخصيات أخرى، لكي تصبح فرداً من المجتمع الذي يضع الجميع في علب جاهزة لا يُريد أحداً أن يخرج عنها، وعندما وجدت القناع المناسب في العمل كعاملة متجر البقالة، وأنه أكثر ما يُناسبها، فظلت تعمل بالمتجر لمدة ثمانية عشر عاماً! دون أن يكون لها حياة خارج المتجر، أكثر من لقاءات مُتباعدة لبعض أصدقائها من وقت الدراسة، وأختها التي تقلق بشأنها دائماً، ووالديها الذي لا تزورهم لفترات طويلة.
ذلك القناع ساعد كيكو على الإندماج، وسط مجتمع لا يقبل المُختلف، والمُثير للدهشة أن "كيكو" تُدرك ذلك، هي واعية بنفسها إلى الحد الذي يجعلها تخاف من أن توصم بأنها غير طبيعية في نظر المجتمع، الذي لن يرحمها لو ذاع سرها، فأتقنت الحياة بداخل المتجر وكأنها حياتها، وكانت حتى في أوقات ما بعد العمل لا تزال تُفكر في العمل، وطريقة ترتيب الأصناف، والطريقة الأمثل لعرضها! كيكو موظفة مثالية في نظر المجتمع، ولكن يبدأ المجتمع ينظر لها بشكل مختلف عندما نرى أنها في السادسة والثلاثون من عمرها ولم تتزوج، ولا تزال تعمل بوظيفة دوام جزئي بالمتجر، فتتعرض لضغوطات هائلة من أصدقائها وعائلتها وحتى مديريها في العمل لكي تحل تلك المشاكل الذي يراها المجتمع!
رواية تنتهج السخرية السوداء منذ أول لحظاتها، تتحدث الشخصيات فيها بجدية فلا تستطيع أن تُفرق بين السخرية المقصودة من الكاتبة أو من الجدية في الحديث من الشخصيات، تنتقد الرواية المجتمع، والتصنيفات التي يضعنا تحتها، وإذا خرجنا عن ردائه نبذنا المجتمع وأصبحت غُرباء عليه، فلا مجال للاختلاف هنا، أنت تولد كي تدرس كي تتخرج كي تتوظف كي تتزوج كي تنجب كي تُربي كي تموت! أي ترتيب آخر غير ذلك يضعك في خانة المُختلفين الذين يكرههم المُجتمع. فقط تمنيت لو كانت الرواية أكبر من 135 صفحة، بأحداث أكثر جاذبية، وتشابك في العلاقات أعقد مما تتم تقديمه، فما قدمته الكاتبة في الرواية طرح مجنون ومختلف، -كعادة الأدب الياباني- ولكنه حقيقي ويدعو للتساؤلات العديدة حول الحرية، وهل نعيش فعلاً الحياة التي نُريدها؟ أم نعيش الحياة التي يُريدها لنا المجتمع؟
"كيف أصف المرارة التي شعرتُ بها؟ كُنت كوباً مكسوراً، والفراغ الذي بداخله قبل أن ينكسر، صار هو والفراغ المُحيط به سواء. مساحة قاحلة ضللتُ فيها الطريق. "كيف أصف المرارة التي شعرتُ بها؟ كُنت كوباً مكسوراً، والفراغ الذي بداخله قبل أن ينكسر، صار هو والفراغ المُحيط به سواء. مساحة قاحلة ضللتُ فيها الطريق. تحت قدمي سكاكين حادة. مع كل خطوة خطوتها، صارت احتمالية الوصول إلى أي مكان أكثر استبعاداً."
رواية "سميته كرافتة" واحدة من أعذب ما قرأت مؤخراً، رواية دافئة ومؤلمة في جميع طياتها، وجوانبها، تبدأ عندما يكسر "هيرو تاجوشي" عزلته التي امتدت لعامين بداخل غُرفته لسبب قوي يُمكن تلخيصه في أنه يخاف الناس، والارتباط منهم، ووطأة فقدهم، اعتزل حتى عن والديه الذان حاولا بكل الطرق أن يُخرجاه من تلك العزلة، حتى بالعنف والضرب، حتى ما يُمكن وصفه بأنهم "رميا طوبته"، ليخرج في أحد الأيام إلى أحد الحدائق، ويتأمل في الناس من حوله، حتى يجد الكهل "أوهارا تيتسو"، لتبدأ حكايتهم معاً التي بكل تأكيد، سيظل أثرها مع كلاً منهم في عالمه.
"كل إنسان عبارة عن مجموعة من القصص. أما أنا. فترددت. شعرت بالخوف من تجميع قصصي. تمنيتُ لو كنت قصة خالية من الأحداث."
ما بين التردد في حكي، وما بين الحكي دون صراحة، يقصصا على بعضهما الحكايات المختلفة من حياتهم، شخصيات تروح وتأتي، أحداث مؤلمة، من وجهتي نظر مختلفة تماماً، ولكنها تصب في نقطة إلتقاء، تنكشف حكايات "أوهارا" الذي أرى أنه أفضل شخصيات الرواية، من ناحية المُعاناة والمآسأة، وتنكشف أسرار "هيرو" أيضاً، لتصل بنا الأحداث عند مفترق طرق، اسمه الحياة.
تقسيم الفصول بداخل الرواية كان في البدء جميلاً وسريعاً، ولكن مع توالي الأحداث شعرت أنني أحتاج إلى شكل الفصول التقليدية، حتى أشعر بالارتباط أكثر، وكنت أحياناً أتجاهل أنني اتنقل من فصل لآخر، حتى لا أشعر بفاصل، السرد كان من أول لحظة يحمل الطبعة اليابانية، والشخصيات من كلمات بسيطة تشعر بألمهم، بالشقاء الذي يُعبأ روحهم، وقلوبهم، هناك ثقل في كل شيء، حتى الهواء، ولكن رغم كل ذلك السواد، هناك روح خفيفة بشكلاً ما، أثبتتها النهاية، التي كانت من أجمل النهايات التي قرأتها في حياتي، رغم بساطتها، ولكنها تحمل دلائل عديدة، ومغزى رائع.
ختاماً.. هي رواية مُمتعة، رغم سودواية أحداثها، تحمل في طياتها العديد من العبر، وبمجرد ما تبدأ فيها لن يُمكنك إلا أن تُنهيها، ولولا بعد الأحداث غير المنطقية، لارتفع قدرها عندي، أكثر مما هو مرتفع.
رغم أن تاريخ نشر رواية "المفتاح" للكاتب الياباني "جونيشيرو تانيزاكي" هو 1956، أي منذ أكثر من 65 سنة ولكن موضوعها مُثير للاهتمام، ويُمكن ربطه بالعديد م رغم أن تاريخ نشر رواية "المفتاح" للكاتب الياباني "جونيشيرو تانيزاكي" هو 1956، أي منذ أكثر من 65 سنة ولكن موضوعها مُثير للاهتمام، ويُمكن ربطه بالعديد من الموضوعات في عصرنا الحديث، ولكي لا أطيل عليك فموضوع الرواية الأساسي هو الجنس والعلاقات الزوجية. تبدأ الحكاية بعلاقة مُضطربة بين زوج وزوجته، فيبدأ كل طرف بكتابة مُذكراته، لا تعرف ما الهدف؟ هل يُريد كل طرف أن يقرأ الطرف الأخر ما يكتبه أم لا؟ لا تعلم، ذلك الباب الموارب الذي يُعطي شعور بدغدغة وارتفاع الأدرينالين، أن يكتشف الأخر أنك تكتب أفكارك بلا تزييف أو إدعاء، ويقرأها، بل ويصر الطرفان على كتابة المذكرات وما تحتويه من وقائع وأحداث خارجة عن الحياء، ولكنها تحمل مفتاحاً، ذلك المفتاح الذي كان دائماً ما يتركه الزوج لكي تفتح به زوجته درج مكتبه وتقرأ مذكراته، من الصعب قراءة هذا النوع من الروايات إذا كنت حساساً. فالزوج لا ينفك أن يصف زوجته بالشبق والولع الجنسي، ولكن من منظورنا نحن، نرى أنه المولع بإرضاءها، نظراً لفارق السن بينهما -الذي تجاوز عشرة سنوات- فيُحاول بكافة الطُرق، أن يُمتعها رغم الجليد القارس الذي يرتسم على وجهها أثناء علاقتهم، الرواية لا تكتفي بتلك التعرية فقط، فتعرية الأجساد سهلة، ولكن تعرية الأرواح أصعب بكثير، ورغم التكثيف الذي شهدته الأحداث، ولكننا تابعنا أفكار الشخصيات ورصدناها، وشاهدنا تلك التحولات المجنونة، والإيروتيكية بالطبع.
البناء الأساسي الذي قامت عليه الرواية هو المصارحة والمُكاشفة، القراء يعلمون تماماً ما يحدث، لكن سينتابك بعض التساؤلات -التي في محلها- حول دوافع بعض الشخصيات الأخرى، كالابنة مثلاً، أو من زُعم بأنه سيتزوجها، فعلى الرغم من أن الأحداث نراها من منظور شخصيتان فقط -الزوج والزوجة- لا يلغي تأثير الشخصيات الأخرى الموجودة، وكان تأثيرهم جلياً وفعالاً. ولكن، دوافع الزوجة هي من جعلتني حائراً بعض الشيء، فالعلاقة الجنسي�� مع زوجها الذي تقرف منه وتكره جلده الشمعي، وهوسه وولعه بجسدها وبطُرق إرضاءها، كل ذلك تمقته، إلا أنها مُستمرة في لعبة الكر والفر والسجال بينهما فكرياً قبل جنسياً، بل وباعترافها وجدت نفسها مُستمتعة بالخوض في غمارها، واستمرت تلك الحيرة حتى النهاية، حتى آخر صفحة في الرواية! فوجدت أنني وبكل صراحة، خُدعت، كان هناك حبكة وقصة بعيداً عن الجنس وتطرفه، بعيداً عن الأجساد والمُتعة والشبق، ولم أراها قادمة حتى! جعلني الكاتب ملهياً بالجنس ورمزيته وطبيعته وحميميته وإلى ماذا يرمز وأهميته، ونسيتُ أننا بشر، نُخطط لأقصى الأشياء مكراً وخداعاً، فوجدت أن بهذه الخاتمة قد ارتفع قدر الرواية عندي، ليس بشكل هائل، ولكنه في نفس الوقت ليس بقليل أو على الأقل كما كُنت متوقعاً.
وظف الكاتب "جونيشيرو تانيزاكي" الجنس وحميميته ليحكي حكاية خبيثة وخادعة، ولكنه لم يستخدمه دون غرض، فالتعمق في حيثياته وتفاصيله يُريك بعداً لزوجان غير قادرين على أن يُكاشفا بعضهم عن رغباتهم، وكيف أن ذلك قد يؤدي إلى نهاية مآسأوية. وجدت نفسي مآخوذاً بجمال تفاصيل الرواية على مدار أحداثها، وأفكارها، وعلى الرغم من صفحاتها القليلة، فتكثيفها جاء ليُكمل كل الفراغات.
بكل تأكيد لا أستطيع أن أرشح هذه الرواية للجميع فموضوعها حساس، ولكن إن كنت تبحث عن رواية قصيرة ستجعلك تلهث وراء أحداثها، وتُفاجئك نهايتها، وفجة وإيروتيكية أيضاً وساخرة بشكلأً ما، فهذا ترشيحي الأول.
ملحوظة أخيرة: الرواية تُرجمت إلى العربية ثلاث مرات: أول مرة من دار المركز الثقافي العربي وجاءت بعنوان "المفتاح" بترجمة صلاح صلاح، عام 2006. المرة الثانية من دار ورد السورية، وجاءت بعنوان "اعترافات خارجة عن الحياء" بترجمة عدنان محمد، عام 2008. والمرة الثالثة من دار الجمل، وجاءت بعنوان "المفتاح" بترجمة خالد الجبيلي، عام 2014. اخترت الترجمة الأخيرة لاعتقادي أنها الأحدث وربما بالترجمات السابقة أخطاء فتتجنبها، رغم معرفتي بجودة ترجمات صلاح صلاح، ولكن في الحقيقة كانت الترجمة عادية بل من وجهة نظري كانت تحتاج إلى مراجعة دقيقة. ...more
"ذكرياتي لا تتبدد تماماً، كأنما اجتُثت من أصلها. فحتى وإن بدت أنها اندثرت إلا أن بقية مُبهمة منها تظل في مكان ما. إنها مثل تلك البذور الخفية التي قد ي "ذكرياتي لا تتبدد تماماً، كأنما اجتُثت من أصلها. فحتى وإن بدت أنها اندثرت إلا أن بقية مُبهمة منها تظل في مكان ما. إنها مثل تلك البذور الخفية التي قد يحدث أن يهطل عليها المطر فتنبت من جديد. ثم، حتى وإن غابت الذكريات، فإن شيئاً منها يظل حاضراً في القلب. رجفة، أو ألم، أو فرحة، أو دمعة."
رواية "شرطة الذاكرة" هي التجربة الأولى لي مع الكاتبة اليابانية "يوكو أوغاوا"، والتي ستجد لها شهرة ليست بقليلة خارج اليابان وداخلها، وعندما قرأت هذه الرواية تفهم سر هذه الشهرة، لأن الكاتبة تستحق كُل ذلك، مع بعض التحفظات حول هذا العمل.
تبدأ الحكاية بتفصيلة خيالية مُثيرة للاهتمام، ألا وهي اختفاء الأشياء على حسب أهواء السُلطة، تبدأ الأشياء التي تختفي بأشياء بسيطة للغاية تكاد لا تشعر بأهميتها، ثم تتدرج وتتصاعد حتى تُصبح أشياء أساسية، هامة، لا يُمكن العيش دونها، فتقرر السلطات فجأة أن تختفي مهنة ما، أو الروايات، أو طعاماً ما، أو حتى جزءاً من الجسد! ولتنفيذ تلك الاختفاءات عُينت إدارة للسيطرة عليها وضبط الخارجين عن تعليماتها تُسمى باسم "شرطة الذاكرة"، وهي هيئة تعسفية غاشمة، لا تفهم شيئاً إلا الأوامر والقوانين، مهما كانت غير قابلة للتطبيق، فتداهم البيوت ليلاً أو صباحاً، تقبض على المُتهمين مهما كان عمرهم أطفالاً كانوا أو كبار السن، تُعذبهم، وتذيقهم المرار، ويختفوا بالأيام والشهور في أحسن الأحوال، في أسوأها لا يظهروا مرة أخرى أبداً! فكيف يعيش أهل هذه الجزيرة في ظل كل تلك الإختفاءات؟
تلك البداية وعدت بأشياء وأحداث كثيرة، ولكن ركزت الكاتبة على مشاعر البطلة فقط، وبعض المحيطين بها، كتاريخ عائلتها، والجد، وناشرها "ر"، وكُل تلك الأفكار الخاصة بالذاكرة، تلك المُعضلة الفلسفية بشكلاً ما أنه لو أختفى شيئاً من أمامك، فهل يسقط من الذاكرة؟ هل عدم وجود الشيء في الوقت الراهن يعني أن العقل ينساه؟ أو القلب؟ هذا ما وجدت الرواية تدور حوله، ولكن بتمطيط شديد في الأحداث، رغم تعلقي بالأجواء الباردة، وعلاقات الشخصية المُركبة، ولكن أفضل ما أعجبني في الرواية، هو الرواية التي بداخل الرواية، فمهنة البطل هي روائية، لها أعمال عديدة في جزيرة لا يقرأ أهلها، ولكنها تكتب، فكانت تكتب رواية وجدت فيها من تشويق وإثارة ومعنى أكبر مما في الرواية الأساسية نفسها، كنت أترقب الفصول التي تمن علينا الراوية بها من روايتها، وكيف أنني لاحظت بعض التشابهات بين ما تكتبه الراوية، وبين ما تعيشه، فكلتا البطلتين لا يتكلمان، كلتاهما واقفتين مكانهما لا تُحاول حتى الخروج من هذا المأزق، حتى لو حانت الفُرصة لذلك.
"إن كنتُ أبكي بلا سبب، فربما لأن قلبي بلغ حداً من الوهن، حتى ما عاد بإمكاني أن أساعد نفسي!"
ختاماً.. هذه رواية تحمل دفئاً رغم برودة الجو، مليئة بالتفاصيل والنقاشات حول كُنه الذاكرة، فلسفة فريدة من نوعها تحمل سودواية مُحببة للنفس ليست غريبة على أجواء الأدب الياباني عموماً، ولولا الاستطراد الزائد عن الحد في بعض الأحداث، وعدم وجود أحداث تلائم جمال الفكرة الأساسية لكانت لهذه الرواية شأناً أكبر عندي. لكنها وبلا شك تجربة تستحق أن تمر بها. ...more
"أياً كانت أحلامنا، سوف نعثر بالضرورة، ذات يوم، على ما كُنا نبحث عنه بفضل الصوت الذي يقودنا، أنا على قناعة تامة بذلك. الحياة ليست عُبارة عن زي موحد. في "أياً كانت أحلامنا، سوف نعثر بالضرورة، ذات يوم، على ما كُنا نبحث عنه بفضل الصوت الذي يقودنا، أنا على قناعة تامة بذلك. الحياة ليست عُبارة عن زي موحد. في بعض الأحيان، يتغير لونها بشكل كامل."
على الرغم من الخفة والرشاقة اللتان تتميز بهم رواية "ملذات طوكيو"، إلا أنها تحمل في طياتها أوجاع، وأحزان، عظيمة، تجعلك تتعجب كيف لشخصياتها أن يستمروا بهذ الوجع والحزن؟ لعلها تكون تذكرة لك لتنجو من أوجاع حياتك. فـ"سينتارو" المحكوم عليه بأن يعمل في محل لتقديم حلوى الدوراياكي ليفي بوعده لسيده، الذي أنقذه من سجنه، لينتقل من سجناً إلى سجناً آخر وإن كان أكبر حجماً، ولكن تظل القيود تُحاوط رقبته. فتدخل حياته السيدة "توكي"، الكهلة، والتي تمتلك أصابع يد معقوفة، ووجهاً عندما تنظر فيه لأول مرة لن تجد الراحة موجودة، ولكن بعد عدة مرات، ستنظر إلى هذا الوجه، وتكتشف أن كل تفاصيله كانت هي الراحة. رغم الحزن التي تتسم به، لا تزال قادرة على أن تضحك وتبتسم، وبحماس الأطفال تعرض على "سينتارو" أن تعمل معه، وبالطبع في البداية رفض لعدة إعتبارات، ولكنها تركت له في مرة علبة بها حشو الفاصولياء الحمراء، فعندما ذاقها شعر بضرورة أن تعمل معه تلك السيدة الكهلة، لتنقذ المحل من الغرق، ولكن، هل الحياة بهذه الوردية فعلاً؟
من خلال تعليم الوصفات للحلويات، استطاعت الرواية أن تستعرض عضلاتها، وكان جزءاً مُمتعاً بالفعل، ولكن لو ظننت أن هذا موضوعنا الأساسي فأنت خاطئ بكل تأكيد، فالموضوع أعمق مما يبدو، وإن ظهر على السطح بشكلاً عابر، ولكن آثاره مُتمدة في كل لحظة. إن مجتمعنا غريب، وقوانينه أغرب، يرحم من يُريد أن يرحم، ويُحيل الحياة جحيماً للأخرين، فهو بيده أن يتقبل عودة المُتعبين والذين مروا بمحن، بأهواءه الشخصية، فهو أحياناً يرفض وأحياناً يقبل، بلا عدل، فمحنة السيدة "توكي"، التي نجت منها، عندما تُمعن التفكير في كل تلك المعاناة التي مرت بها، منذ كانت طفلة في الرابعة عشر، كُل ذلك الألم، نفسياً قبل جسدياً، وعندما اقترب الضوء خارج النفق منها، وجدت أنه ليس من حقها أن تُطالب به، وعليها أن تُكمل حياتها كما هي، رغم أن المعوقات أُزيلت، ولكن المجتمع كما هو، يقبل من يقبل، ويرفض من يرفض! غريب أمرنا أليس كذلك؟ فعلى الرغم من كُل الدلائل والبراهين العلمية، يرفض المجتمع السيدة "توكي"، وينبذ انخراطها فيه، هي ونفس من مروا بأزمتها الكبيرة، التي لا يد لها فيها! ولكن، لم تقف المعاناة على شخصية السيدة "توكي" فقط، ولكن أيضاً "سينتارو"، و"واكانا"، كُلاً بطريقة مُختلفة، ولكنها كلها حزينة.
فمواضيع بهذا الحزن أن تُكتب بهذا المرح واللطف، كأنها وصفة وعلى الرغم من أن كُل مكوناتها حلوة، ولكنه يظل مذاقها مر كالعلقم، لا تشعر به إلا بعد أن تتناولها كاملة. وهنا يكمن نقطة قوة الرواية، ولكن نقطة ضعفها البارزة، أنني كنت أتوه في الحوارات الشخصية عن السرد، فالسرد كان يصل��ي منه المتعة والمعنى أكثر من الحوارات، التي من المُفترض أن تكون هي التي تقوم بهذا الدور. الفيلم المُقتبس عن الرواية جميل ودافئ، وأحببت أن أشاهده لاختلاف ثقافتنا عن ثقافة اليابان، فشعرت بالحاجة إلى أن أرى هذه الأطعمة بعيني وليس مُجرد وصف، وإجمالاً الفيلم كان مُخلصاً للرواية.
كتاب السيرة الذاتية "نهر في الظلام: هروب رجل من كوريا الشمالية" هو كتاب لا يُنصح به إطلاقاً، ليس لأنه سيء! ولكن لأنه مؤلم، ومروع، سيُبكيك حتى لو كان ق كتاب السيرة الذاتية "نهر في الظلام: هروب رجل من كوريا الشمالية" هو كتاب لا يُنصح به إطلاقاً، ليس لأنه سيء! ولكن لأنه مؤلم، ومروع، سيُبكيك حتى لو كان قلبك كالحجر، وسيجعلك تتسائل عن نوع الحياة التي تعيشها، سيُغير نظرتك لها بالطبع، سيجعلك مُتمناً أكثر لكل شيء، حتى لو كان مُجرد وجبة غذاء، أو كوب ماء، أو حتى قطعة ملابس حسنة المظهر، بالإضافة طبعاً، لمنزلك التي تقطن فيه، ولا تعبأ بأي شيء حوله.
الياباني/ الكوري الجنوبي "ماساجي إيشيكاوا"، هاجر مع عائلته إلى كوريا الشمالية، بسبب الوعود المُغرية عن جنة الأرض، بلد تحترم مواطنيها، وظيفة محترمة، مأكل وملبس، ومسكن، أنهم يُريدون تحقيق جميع الأحلام -للسخرية فهذه أقل حقوق أي إنسان في أي بلد-، وبما أن الظروف الاقتصادية باليابان ليست في أفضل حال، ولأن والد "ماساجي"، أصبحت بلطجته بلا طائل ولا نفع، فكانت البطاقة الذهبية هي الذهاب إلى كوريا الشمالية، رغم أنه في الأصل كوري جنوبي، ولكن ما الفارق؟ ليذهبوا إلى كوريا الشمالية، ليتلقوا صدمات مُتتالية، ستكون هي أبرز أحداث حياتهم، وستحول في شخصياتهم، وتؤثر فيها، وتُثقلها أحياناً، وتجلعها هشة في أحيان أخرى.
ليذهبوا إلى جنة الأرض ليكتشفوا أنها ليست سوى.. جهنم الأرض! بيوت أقل من متواضعة، طعام شحيح، وظائف غير متوافرة، ظلم لكونهم من جانب ياباني، مرتبة اجتماعية مُتدنية مهما اجتهدت في العمل، لا يحق لك الاعتراض على أي شيء وإلا مصيرك سيكون الموت الفوري، وصايا للحاكم يجب أن تحفظها مثل اسمك، مهما كانت مُختلة وتجعل من الحاكم البشري إلهاً، وبالطبع جنوده وجيوشه لا تُخطأ فستعيث بك أضراراً وتسرق منك، ولا تستطيع الشكوى -هذا حال مُشابه لبعض البلاد في الوقت الحالي :)-، بإختصار كُل الوعود التي ذهبوا من أجلها لم يجدوها، بل وحياتهم أسوأ مما كانت عليه، حتى أن الأب الغاضب القاسي الغشيم، لان، لما فهم الورطة التي وضع عائلته فيها.
ولكن ما أهمية هذا النوع من الكتب؟ هناك العديد من الفوائد لهذه الكتب، فبالإضافة إلى أنها ستجعلك تُقدر كُل شيء حولك كما ذكرت، فهي ستجعلك تُفكر في محنة العديد من البشر، الذي أصبحت الحياة بالنسبة لهم هي سلسلة من النجاة، هو لا يعيش، هو ينجو، تلك النوعية من الحياة التي تجعله يُجاهد من أجل أن يأكل، أي لقمة، اتجهوا إلى الأعشاب المفيد منها والضار، كلوا بقايا الطعام الموجود بالقمامة، لقد وصف الكاتب نفسه بأنه سعيد الحظ عندما وجد بقايا تفاحة! أتتخيلوا معي ذلك؟ بقايا تفاحة جعلته يشعر بأنه محظوظ! يا الله، لماذا يوجد من يعيش بكل هذا البؤس؟
بالطبع ستتوقع أن هذا الشخص حاول الانتحار، بالطبع حاول، ولكن بعد العديد من الخيبات، ضاقت به الحياة ذرعاً وسبيلاً، لا يوجد مُتنفس، حتى حكومة البلاد لا تُساعد، ماذا يفعل؟ أن حتى حق الخروج من هذا الجحيم غير موجود! ألا يكفي أنكم تمتصون كل نقطة دم بنا؟ يبدو أنه لا يكفي لتلك البلد الاشتراكية، التي تُحول سكانها إلى شيئاً من اثنين، أما عبد، أو ميت، وهناك البقية حول حاشية الحاكم وحكومته، هي الطبقة المُنتفعة الوحيدة بخيرات البلاد! لاحظ يا عزيزي القارئ أن كُل ذلك قبل العام 2000! فتخيل معي الوضع الحالي هناك بعد كُل التطورات التي حدثت التي ستساعد في تعتيم أكثر، وسرية أكثر، وبكل تأكيد بؤس أكبر.
المُرعب في هذه السيرة الذاتية، أنها سيرة ذاتية، أي يعني أنها حدثت لشخص بالفعل! أحياناً تقرأ روايات تكون مؤلمة، ولكنك تُعزي نفسك بأنها خيال كاتب، لكن ليس هذا هو الحال مع هذا الكتاب، فكل حدث هو حدث حقيقي، مر به الكاتب وعائلته وأناس أخرين، مما سيجعلك تتساؤل، ما المغزى من حياة ليس فيها شيء سوى الألم؟ ...more
سلسلة "جن الحافي" هي تذكير دائم أن البشر بإمكانهم أن يصبحوا بمُنتهى القسوة، ومُنتهى الضعف، ذلك التناقض البغيض الذي يُميز جنسنا البشري. فلا نزال نرصد تت سلسلة "جن الحافي" هي تذكير دائم أن البشر بإمكانهم أن يصبحوا بمُنتهى القسوة، ومُنتهى الضعف، ذلك التناقض البغيض الذي يُميز جنسنا البشري. فلا نزال نرصد تتابع نتائج القنبلة الذرية، وما يلي ذلك من تحولات في البشر، الذين يحاولون أن يستوعبوا كُل هذا الهلاك والدمار والشتات، فأصبح الوطن كلمة فضفاضة واسعة لا يستطيع أي مواطن أن يشعرها، فقط يرى الضلال وسواد قاتم، ولكن رغم ذلك يجد الكاتب طريقة رائعة لإيصال الأفكار بطريقة مرحة تُخفف من ظلامية الأحداث، ومآسأويتها. وكان ذلك الجزء الرابع بعنوان نضوج القمح الأخضر، ورغم كُل المصاعب، هناك أمل طفيف يلوح في الأفق. ...more
بكل تأكيد كتاب "شموع الجثة: وقصص أخرى" هو واحد من أفضل المجموعات القصصية التي قرأتها من فترة طويلة.
شموع الجثة هي مجموعة قصصية للكاتب "قُصقي فبك" وكُل بكل تأكيد كتاب "شموع الجثة: وقصص أخرى" هو واحد من أفضل المجموعات القصصية التي قرأتها من فترة طويلة.
شموع الجثة هي مجموعة قصصية للكاتب "قُصقي فبك" وكُل القصص هي بوليسية بحتة، بجرائم قتل مُختلفة، وطُرق قتل رهيبة، ولأن أغلب الأحداث مكتوبة في زمن قديم نسبياً، لم يكن هُناك ذلك التطور الرهيب الذي يجعلك تعرف القاتل من لون جواربه!، فكانت الجرائم وطريقة حلها والكشف في غاية البراعة والجمال، مكتوبين بحرفية شديدة، لم أستطع أن أتوقع إلا قصة أو أثنان، ورغم ذلك كنت مآخوذاً بجمال السرد، والشرح للجرائم، والأنفس البشرية المُختلفة.
لن يُفتك طبعاً أن أغلب الجرائم بها جزء طبي، بسبب خلفية الكاتب الذي درس الأمصال وعلومها، فستجد في أغلب القصص هناك سُم ينتظرك، أو طريقة الكشف عن المُجرم بطريقة طبية، بشكلاً أو بأخر. ولن يُفتك أيضاً أن الترجمة رائعة، المترجم "ماهر الشربيني"، نقل روح القصص، فتشعر أن الكتابة في الأساس بلغة عربية، وليست مُترجمة أبداً، وهذه ليست أول سابقة لي مع المُترجم، ولن تكون الأخيرة، وأتمنى أن يكون هناك المزيد من الترجمات للكاتب الياباني، وسأكون طماع قليلاً، لا بأس بذلك، لو تمنيت أن تُترجم جميع أعماله، فالذي رأيته فهذه المجموعة القصصية يوحي أن الكاتب ضليع ومتمرس في مجال الكتابة البوليسية.
مع نهاية القصص ستكتشف عامل مهم جداً، وهو أن الإنسان هو أكثر الكائنات رُعباً في هذا العالم، وأن الرُعب الحقيقي ليس مُرتبط بالخوارق غير المرئية، ولكنه مُرتبط بوجودنا الشرس، الذي يجعلنا نلعب دور الإله، ونقتل بشراً أخرين، ونظن أننا أذكى من العلم، وأكثر غروراً، أنه لن يتم كشفنا، ولكن، هيهات، مهما طال الزمان، ستُكشف جريمتك. ...more
"أشعر كما لو أن كُل حركة من حركاتي تتحكم بها ذراع طويلة تمتد من مكان بعيد، وأن حياتي ليست أكثر من معبر تمر من خلاله تلك الأشياء."
تتمة أحداث طائر الزنب "أشعر كما لو أن كُل حركة من حركاتي تتحكم بها ذراع طويلة تمتد من مكان بعيد، وأن حياتي ليست أكثر من معبر تمر من خلاله تلك الأشياء."
تتمة أحداث طائر الزنبرك ويومياته، في أول جزئين كنت قد ذكرت مثلث سيطر على الأحداث -من رؤيتي للأحداث وقتها-، ذلك المثلث يحتوي أضلاعه على الألم والعلاقات والوحدة. رُبما استطيع القول أن الجزء الثالث يحتوي على ثلاثية أخرى من نوع آخر، فنحن على موعد مع مثلث أضلاعه تتكون من: السياسة، والتاريخ الحربي، والغموض. السياسة لم يُفرد لها جزء كبير في الأحداث، ولكنك تستطيع أن ترى تأثيرها من خلال شخصية "نوبورو واتايا" وتدخلاته السافرة والعنيفة، وكيف كانت تُقلب الشخصيات، وتدفعهم إلى الأمام في الأحداث، من "كوميكو"، حتى "قرفة"، و"جوزة الطيب"، وغيرهم. وصفته "كوميكو" في أحد المرات أنه انتهكها، ولكن ليس جسدياً، فهو لديه تلك الطريقة التي ينتهك به بطريقة أكثر وطأة من الانتهاك الجسدي، هو يتغلغل بداخل روحك، لا تستطيع الفكاك منه، ولا تستطيع إلا أن تُنفذ ما يأمرك به، هو يتحكم بحبالك الخفية إلى تلك الدرجة.
أما الضلع الذي فُردت له أغلب الأحداث، كان التاريخ الحربي لليابان، وكُلما قرأت عنه، يتضح لي مدى العنف التي خاضته هذه البلد، سواء كان العُنف مُمارس عليها من السوفييت مثلاً، أم تُمارسه بنفسها على الصينيين مثلاً، وتلك المُغامرة التي خاضها "مامايا" في أحضان ذلك السجن بـ"سيبيريا"، والتي كانت من أفضل أوقات التشويق داخل الرواية.
أما الضلع الثالث والأخير فكما ذكرت هو الغموض. فُربما وضحت العديد من الأشياء في هذا الجزء، والنهاية تُشكل تصوراً مقبولاً عن الأحداث، وذلك العبث الذي فعله بنا "موراكامي" على مدار 980 صفحة، تخيلات رهيبة وشديدة التفرد، يُماهي الواقع والخيال، فيتمزجا سوياً، لا تكاد تعرف الفرق بينهم، لا بتقدم الأحداث ولا بنهايتها، هناك أحداث، لا استطيع أن أجزم إذا كانت حدثت في الخيال أم الواقع، ولكن "موراكامي" لا يفصل بينهما، هم تحت مُسمى واحد بالنسبة له، ألا وهو الحقيقة، هو يسرد الحقيقة سواء كانت خيالاً أم واقعاً، لا فارق. يسردها بحياد وشفافية، ولا منطقية أحياناً، ولكن من قال أن الحقيقة منطقية؟ هو يسرد الحقيقة مهما كان شكلها، ومهما كانت صفاتها المُتغيرة.
ختاماً، لا أنكر أن هذا الجزء أقل من الجزأين السابقين، رُبما لأن الجانب التاريخي قد طغى على الأحداث، إلى الدرجة التي جعلت "هاروكي" يُلحق بالرواية مصادره، فذلك السرد إذاً لم يكن متخيلاً، هذا واقع يمتزج بحكايتنا المُتخيلة، ولكن في النهاية كُل ذلك هو الحقيقة. ولكن وبرغم بطء الأحداث أحياناً، كُنت مستمتعاً بشكلاً ما، أقرأ ولست مُتأففاً من الملل، ولكن كان هناك جزء مني بدأ يشعر به، وعندما اقترب ذلك الجزء أن يكبر، سرع "هاروكي" الأحداث، ووصلنا إلى النهاية التي لا ازعم أني قد فهمت منها كُل شيء، ولكن من يفهم رواية كاملة لهاروكي؟ ذلك أقرب لعجائب الدنيا وأساطيرها.
"أتدري، ولا مرة في حياتي حصلت على شيء أريده فعلاً. ولا مرة. هل تصدق؟ لا يُمكنك أن تفهم معنى العيش هكذا. ما أن تعتاد حياة لا تحصل فيها أبداً على أي شيء "أتدري، ولا مرة في حياتي حصلت على شيء أريده فعلاً. ولا مرة. هل تصدق؟ لا يُمكنك أن تفهم معنى العيش هكذا. ما أن تعتاد حياة لا تحصل فيها أبداً على أي شيء تُريده، حتى تفقد القدرة على معرفة ما تُريد."
أصبحت القراءة لـ"هاروكي" من الملاعب المُفضلة بالنسبة لي، أمسك الكتاب أرتدي نظارة ثلاثية الأبعاد، ويرسم لي "هاروكي" عوالم من الشخصيات والعلاقات والأحداث الغرائبية المُتمكنة، بأسلوب شيق للغاية، لا يوجد ملل هُنا. هُنا توجد المُتعة خالصة. في هذه اليوميات الأولى والثانية من أصل ثلاثة، يتناول "هاروكي" حياة أحد الأشخاص العاديين، موظف عادي، يتزوج موظفة عادية.. تبدا الأحداث بحدث غير عادي قليلاً مثل اختفاء قطتهم.. ليتبع ذلك سيل من الأحداث غير العادية.. أحداث ستنقطع أنفاسك وأنت تُتابعها، وتتوالى المُفاجآت الغريبة كشلال. ولكن هذا ليس أفضل ما يمتلك هاروكي، أفضل ما يمتلك هاروكي هو البُعد النفسي الذي يصبغ به شخصياته، يلونهم به، ويُشكل علاقاتهم، شخصيات رُبما تبدو غير عادية، ولكنها في حقيقة كُل الأمور، عادية للغاية. أتوقع أن هاروكي لديه منظار سحري؛ يجعله ينظر للأشياء فيفهمها بطريقة مُختلفة عما نعرف ونعلم، فيقوم بالكتابة عنها مثلما رأى. فمثلاً، رؤية "هاروكي" للجنس مُختلفة، مُمتعة، ومُثيرة.. تطرح أسئلة فلسفية عن كُنه الجنس نفسه، الشعور حوله، والتأثر به والتأثير الواقع من خلال ظلاله. العديد من الكُتاب يكتبون عن الجنس، ولكن هاروكي فقط من يستطيع أن يربط الجنس بألوان شخصياته المُختلفة، لكلاً منهم له طريقته، وفقط عندما تتعرى الأجساد؛ تظهر الشخصيات على حقيقتها الداخلية، دون أي كذب أو خداع أو غش. هاروكي يجعلنا نرى ذلك، ويجعلنا نفهم ذلك من خلال شخصياته. لا أريد أن أجعل هذه المُراجعة يصلح عنوانها أن يكون: في محبة هاروكي موراكامي؛ ولكني لا أستطيع أن أجحف بالتأثير الكبير الذي يتملكني عند القراءة له.
"هل يُمكن حقاً أن يفهم الإنسان إنساناً آخر فهماً كاملاً؟ بمقدرونا أن نُنفق وقتاً طائلاً، وطاقة هائلة، في محاولات جادة لمعرفة شخص آخر، ولكن في نهاية المطاف إلى أي حد يُمكننا أن نقترب من جوهره؟ نستمرئ أن نُقنع أنفسنا بأننا نعرف الآخر حق المعرفة، ولكن هل نعرف شيئاً مُهماً عن أي كان؟"
يُدرج "هاروكي" داخل أحداثه مفهوم العلاقات والبشر، هل نفهم البشر حقاً؟ هل تستطيع أن تُجزم بشكل صريح وواضح أنك تفهم شخصاً ما تماماً؟ مهما كُنت قريب منه؟ حتى لو تنفست أنفاسه نفسها؛ صدقني لن تفهمه. هُناك حالة من الحيرة تُصيبنا إذا اكتشفنا بخداع شخصاً ما، تنبع هذه الحيرة من أننا لم نتوقع أبداً أن يكون الشخص الذي نشدناه ليُنقذنا، هو من تولى عملية إغراقنا وخداعنا. هذه مُفارقة ساخرة؛ ولكنها حزينة للغاية. وجاءت علاقة "تورو" بزوجته لتجعلنا نفهم ذلك ونرتعب من وجوده؛ أنه حتى الزواج لم يعد كافياً لأن نفهم أنفسنا؟ أكثر العلاقات حميمية هي الزواج ورغم ذلك لا نعرف ما يدور بداخل الطرف الآخر.. أليس ذلك مُرعباً؟ يبعث على الخوف والقنوط والاحباط؟ إذاً لمن سنفك أسرارنا المُقيدة إذ لم نستطع البوح بها لأقرب الأشخاص لنا؟
"لا شك في ذلك إذن، مر يوم كامل. لكن غيابي على الأرجح لم يؤثر في أحد. لن يُلاحظ إنسان أنني غبت. لو أنني اختفيت من على وجه الأرض سيسير العالم كأن شيئاً لم يكن. صحيح أن الأمور شديدة التعقيد، لكن الواضح هو أن لا أحد كان في حاجة إلي."
ويُكمل هاروكي الضلع الثالث من المُثلث الضبابي من الرواية؛ ألا وهو: الوحدة. الوحدة هي مرض العصر؛ لأن هذا الشعور ليس -حصرياً- أن تشعره وأنت وحدك فقط، ولكن يُمكنك أن تشعر به وأنت حولك العديد من الأشخاص. ولكن "هاروكي" لا بُد أن يربط الوحدة بالفقد؛ فقد الموت أو فقد الخُذلان أو فقد اللامبالاة حتى.. يجب أن تكون الوحدة مُرتبطة ارتباط وثيق بالمآسأة. ألا يكفي شعور الوحدة وعذاب لياليه؟ بالنسبة لهاروكي لا، يُضيف عليه ألم الذكريات التي تشق صدرك بسكين تلم الشفرات.
"خطر لي الآن أنني لم أقل مرة في حياتي لأحد بوضوح (أريد أن أفعل ذلك). بل أنني لم أقل حتى لنفسي (أريد أن أفعل ذلك). فمنذ لحظة مولدي عشتُ مع الألم في محور حياتي. كان هدفي الوحيد في الحياة أن أجد طريقة للتعايش مع ذلك الألم الشديد."
وكُل أضلاع المُثلث ترتبط بالألم؛ فألم الجنس ألم متعة ولذة، وألم العلاقات ألم خوف وترقب وألم الوحدة ألم مُدمي للقلب والروح.. وتلك التقلبات وما يتخللها من سرد مُحكم لا يتخلله أي ألم سردي، يسير بك هاروكي مُرشداً لك في الرحلة، وأنت تُريد أن تمتد تلك الرحلة للأبد؛ لا تُريد لها الإنتهاء. رواية جميلة ومُمتعة، سأظل أتذكر تفاصيلها كثيراً.. وأتمنى أن يصدر الجزء الثالث لليوميات في أسرع وقت مُمكن.. حتى نُكمل هذه الرحلة المُمتعة. وبالنسبة للترجمة؛ فهي من أجمل الترجمات التي قرأتها.. ترجمة أمينة ومُخلصة مبذول فيها جهد غزير واسم المُترجم "أحمد حسن المعيني" سيُصبح واحد من المُترجمين المُفضلين بالنسبة لي.
"هذا هو نوع الموت الذي يُخفيني. أن يقترب ظل الموت ببطء، وببطء يلتهم بقية الحياة، وقبل أن تعرف، يُظلم كُل شيء حولك، فلا ترى، ويعتقد الناس حواليك أنك مي "هذا هو نوع الموت الذي يُخفيني. أن يقترب ظل الموت ببطء، وببطء يلتهم بقية الحياة، وقبل أن تعرف، يُظلم كُل شيء حولك، فلا ترى، ويعتقد الناس حواليك أنك ميت أكثر منك حياً. أكره هذا. ولا أستطيع احتماله."
التجربة الثالثة لي مع هاروكي، ويجب علي الاعتراف، هاروكي كاتب مجنون للغاية، أفكاره، طريقة سرده، ألفاظه، وحتى مواضيع رواياته، في هذه الرواية مثلاً لو كتبها أي كاتب غير هاروكي ستكون عادية جداً، حكاية نمطية رُبما، ولكنه تلك القُدرة الهاروكية، التي جعلت هذه الرواية واحدة من المُفضلات بالنسبة لي. رواية تحمل أوجاع دفينة، تتكلم عن الحُب والموت والحزن، تلك السرمدية في الأفكار التي جرنا إليا هاروكي، عبثية الحياة ولامنطقيتها.. أحياناً، ولكن بطريقة عادية، ورُبما مُملة.. ولكنه ملل مُمتع -هل يصح ذلك التعبير؟- مع هاروكي يصح طبعاً، الإنغماس في تفاصيل العلاقات مع تورو وناوكو وميدوري كان جذاباً مع أنه مُملاً، ولكنها فُرشة الفنان هاروكي، من أضاف إلى تلك العلاقات من سرده وكلماته، ما جعلها مُمتعة. وكالعادة، وبالرغم أنه غالباً الأحداث قليلة، ورُبما تكون غير مُمتعة إطلاقاً، ولكنك تهرول مع الأحداث والسرد.. تلتهم الكلمات، وتطربك الموسيقى بداخلها، يكاد كُل سطر يلمس دواخلك، إذا هذه رواية تتحدث عن الأنفس البشرية، وهذا كاتب مجنون من اليابان؛ جيد جداً في تشريحها.
"رُبما لم أتكيف مع العالم حتى الآن. لا أعرف، أشعر وكأن هذا العالم ليس بالعالم الحقيقي. الناس، المشهد: لا يبدون لي حقيقيين."
رُبما من الغريب أن نخوض مع مجموعة من المراهقين قضايا عميقة، فهم لم يتجاوزوا حتى العشرين من عمرهم، من أين لهم الخبرة؟ من أين لهم بالثقل؟ ونظرة العين الخاملة؟ تلك العلامات التي تعرف من خلالها أنك كبرت.. صمتك الدائم، وخمود روحك، وإنطفاء كُل شعلة حماس كانت فيك، ماذا فقدوه في تلك السن المُبكرة؟ أين شغفهم في الحياة؟ أيعقل أن تلك الكرة الحارقة بالصدر قد أنطفأت عندهم؟ بالفعل، شخصيات الرواية مُميزين للغاية، أفكارهم وتصرفاتهم، علاقاتهم، وتلك الطريقة التي يعيشون بها، وكأنهم أدركوا حقيقة الكون الكُبرى، أن كُل ذلك عبث، الحياة نوعاً ما عبث، فلماذا أكلف نفسي بأي شيء؟ ومع كاتب مثل هاروكي، جعل الضبابية حولك في كُل شيء، توغلت في الأحداث وأفكار شخصيات، حتى النهاية، ضبابية، غير مُريحة. ولكن يكتمل بها جمال الرواية.
يوماً ما، كانت لدي فتاة أو علي أن أقول، يوماً ما، كان لديها أنا أرتني غرفتها أليست غابة نروجية جيدة؟
طلبت مني أن أمكث وقالت لي: أجلس في أي مكان فنظرت حولي ولكني لاحظت أنه لا يوجد أي مقعد
جلست على بساط أترقب وقتي شربت خمرها تحدثنا حتى الثانية ثم قالت: حان وقت النوم!
حتى الأغنية التي اختارها هاروكي ليعنون بها روايته، غير مُريحة بنهايتها الحزينة والضبابية أيضاً.. كالحياة. غير مُريحة، وضبابية، وصدقني، لا تُناسبنا جميعاً. ...more