ولد الدكتور/ يوسف القرضاوي في إحدى قرى جمهورية مصر العربية، قرية صفت تراب مركز المحلة الكبرى، محافظة الغربية، في 9/9/1926م وأتم حفظ القرآن الكريم، وأتقن أحكام تجويده، وهو دون العاشرة من عمره. التحق بمعاهد الأزهر الشريف، فأتم فيها دراسته الابتدائية والثانوية. ثم التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، ومنها حصل على العالية سنة 52-1953م. ثم حصل على العالمية مع إجازة التدريس من كلية اللغة العربية سنة 1954م . وفي سنة 1958حصل على دبلوم معهد الدراسات العربية العالية في اللغة والأدب. وفي سنة 1960م حصل على الدراسة التمهيدية العليا المعادلة للماجستير في شعبة علوم القرآن والسنة من كلية أصول الدين. وفي سنة 1973م حصل على (الدكتوراة) بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى من نفس الكلية، عن: "الزكاة وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية".
دخل شيخ الأزهر الأسبق، عبد الحليم محمود، كلية تنصيرية في إحدى كنائس فرنسا، فرأى فيها مشهدا عجيبا:
طلاب الكلية قد حُلِقت شعورهم بالموسى، إلا شريطا ضئيلا دائريا حول رؤوسهم. فاستغرب هذا المشهد، ولما ألقى عليهم التحية لم يردّ عليه أحد منهم، فازداد استغرابه!
ولما سأل المدير عن هذا، أخبره بأنهم في فترة صمت طويل، يحرم عليهم فيه الكلام المعتاد حرمة تامة، اختبارا لأعصابهم، وامتحانا لإرادتهم وسلوكهم، وهذه الفترة تمتد إلى ستة أشهر، بحيث لا يصبر عليها إلا أقوياء النفوس أشداء العزيمة، فهؤلاء هم الذين تؤهلهم الكلية لنشر المسيحية في ربوع العال��!
حكى الشيخ عبد الحليم محمود هذه الحكاية لطلابه في كلية أصول الدين، فسمعها منه وسجلها لنا طالبه: يوسف القرضاوي!
كان القرضاوي يتعجب ويدين أن الأزهر لا يختار طلابه وفق معايير قوية، بل لما قيل: إن الأزهر صار يقبل المتردية والنطيحة وما أكل السبع، قال القرضاوي ساخرا ومتحسرا: بل ما يعاف السبع أن يأكله!!
وهذا الكتاب، كتاب "رسالة الأزهر بين الأمس واليوم والغد"، من الكتب المعبرة بعمق عن شخصية الشيخ العلامة الكبير يوسف القرضاوي، رحمه الله، وهو كتاب صغير لا يتجاوز 130 صفحة فحسب.
وهذا الكتاب مؤلَّفٌ من رسالة كتبها وهو شاب في لم يصل إلى الثلاثين، إذ كان قد شكَّل مع بعض طلاب الأزهر جمعية لإصلاح أحوال الأزهر، ثم جاءت المحنة الناصرية فمزقت المجهود كله.
ومؤلَّف كذلك من الرسالة التي كتبها في احتفال الأزهر بعيده الألفي، مرور ألف سنة على افتتاحه، ضمن الكتاب التذكاري.
وأقول: هذا الكتاب معبِّر بعمق عن شخصية الشيخ، إذ تجد فيه شخصية صاحب الهم والهمة، الهمّ بأحوال الأمة وأحوال الأزهر، والهمّة في استنهاض هذا الأزهر ورسم الطريق له لينبعث من جديد ويستأنف دوره في الحياة!
ففيه ترى رجل العلم والدعوة والحركة، ومعالجة الواقع بعيوبه ومشكلاته، وترى فيه شخصية الرجل الذي يبذل أقصى ما يستطيع للتوفيق بين المختلفين والتأليف بين المتخاصمين، وجمع الكلمة على قضية الإسلام، والتفكير للمؤسسة ومستقبلها وبث الأفكار التي تضم شتاتها وتل��لم طلابها وخريجيها، وتعيد بها اكتشاف ذاتها وقدراتها، وكل ذلك من خلال الإشارة إلى واقع المسلمين وحاجتهم إلى الأزهر، ورسم طريق الأزهر ومهمته وعوامل نجاحه، داخل مصر وخارجها!
وفي هذا المقام الذي يحرص فيه أهل الشأن على التفاصح والتكلف في اللفظ والعبارة، وعلى سوق المدائح والمحامد وإبراز وجوه الفخر بالأزهر، ترى الرجل يكتب بقلم الداعية العملي الذي لا ينشغل برثاء الماضي ولا بالوقوف على الأطلال إلا بقدر ما يستعمل ذلك في مهمة المستقبل.
لقد أخذ الرجل من تاريخ الأزهر وشيوخه ما يبني عليه وبه ومنه رسالة الأزهري في نفسه كعالِم، ورسالة الأزهر كمؤسسة عريقة تجمع في أثوابها ثلاث مهمات كبرى: الجامع والجامعة والجمعية.
فالجامع للعبادة والتربية، والجامعة للتعليم والتثقيف، والجمعية للدعوة والإصلاح. ويجب -كما يقول الشيخ- ألا تفقد الجامعة روح الجامع ولا روح الجمعية!
ولكي لا أطيل أكثر من هذا، فإن هذا الكتاب هو خير وصية ينبغي للأزهري أن يتوقف عندها طويلا طويلا، وأن يتأملها مليًّا مليًّا.. فإنه ليس كتاب علم وإنما هو كتاب دعوة وحركة، ويخرج منه الأزهري محملا بعبء الرسالة التي يجب أن يتمحض لها، فيعرف بذلك نفسه ودوره وأمل الناس فيه وتعلق المستقبل به!
بل ولعلي أقول: إنها خير وصية يمكن للمعاهد الدينية والشرعية -لا سيما العتيق منها- أن يتوقف عندها ويتأملها ويسعى إلى تنفيذها مع مراعاة فروق الظروف والتاريخ والحال.
يجب ألا تكون المعاهد الشرعية الدعوية التي تريد تأسيس المصلحين مفتوحة لكل أحد، والكلام هنا عن المحاضن التي تؤسس المصلحين، لا عن المعاهد التي تنشر العلم، فالمؤسسات التي تنشر العلم يجب أن تكون مفتوحة لكل طالب علم، أما تخريج المصلحين، فأمرٌ لا بد فيه من انتقاء الطلاب وتربيتهم واختبار شخصيتهم وتمحيصها!
إن الغربيين لم يكتشفوا العالم من خلال الكتب، بل من خلال فرق الرحالة والمستشرقين التي تركت ديارها الباردة وبيوتها الدافئة، وخاضت غمار صحرائنا الحارقة وأدغالنا المهلكة وعالجت ما في بيئاتنا من الحر والقر واختلاف اللغات والطباع، وبهذا وحده خبروا كثيرا من أحوالنا، ونشروا دينهم وثقافتهم في الكثير من أقطارنا.